نسمة طفلة صغيرة، تتردد كثيرا عند اتخاذ أي قرار، مهما كان بسيطاً .. هل ترتدي فستانها الأحمر أم الأخضر؟، هل تزين شعرها المنسدل بطوق أم تتركه بلا زينة، هل تلعب في النادي كرة السلة أم تمارس رياضة التنس، هل تذهب اليوم لزيارة جدتها أم عمتها؟ هل تقرأ حكاية أم تستمع إلي الموسيقي ؟ هل وهل وهل…
تهدر نسمة وقتا طويلا في اتخاذ قرارها، حتي أنها في كثير من الأحيان ينتهي الأمر معها دون أن تصل إلي شيء، فمن فرط حيرتها وترددها يمضي الوقت وينتهي تفكيرها إلي لا شىء ! فلا هي تفعل هذا ولا ذاك !.
ولكم تضيع منها فرص من التميز و لحظات من السعادة ، كان من الممكن أن تستمتع بها ، لو أنها لم تتردد ، تحزن الصغيرة بسبب هذه الصفة، و تشعر بالفشل، وتتمني لو أنها أكثر قدرة علي اتخاذ قرارها .
وذات يوم اتصلت بها هاتفيا صديقتها المقربة ” فريدة” لتدعوها إلي حفل عيد ميلادها، فرحت نسمة، فهي تحبها كثيراً، والحفل سيكون قرصة لقضاء وقتاً ممتعاً معها و مع سائر الصديقات، ووعدتها بالحضور مع أمها في المساء بعد أن هنأتها بيوم مولدها .
أغلقت نسمة الغرفة علي نفسها، حتي ترسم بورتريه لصديقتها، فهي تجيد الرسم، لكنها سرعان ما سألت نفسها :” هل من الأفضل أن أرسم لها بالفعل وجهها وحده ؟ أم أرسم صورتها التي احتفظ بها لها في حديقة منزل وسط الزهور؟” أمضت وقتا طويلاً حتي قررت أن ترسم بورتريه فقط، حتي يكون مختلفاً عما لدي فريدة من الصور.
لكن بعد أن إنتهت منه، احتارت الصغيرة هل تكتفي به كهدية أم تشتري لها هدية أخري؟ فكرت وفكرت حتي توصلت إلي أن “فريدة” تحب القراءة، فلماذا لا تشتري من المكتبة المجاورة للبيت كتاباً أو رواية جديدة، توجهت الطفلة إلي المكتبة، وهناك قضت وقتاً طويلاً في اختيار ما يمكن أن ينال إعجاب صديقتها، بعد أن حيرت البائع، الذي وضع أمامها الكتب الصادرة حديثاً وقديماً، و القصص القصيرة والروايات الطويلة، وهكذا … حتي استقرت أخيراً علي رواية ، وإن كانت ليست علي يقين أنها ما تناسب صديقتها الحميمة!
وعادت إلي غرفتها لتستعد وترتدي ملابس الحفل، لكنها كعادتها، احتارت ماذا ترتدي؟ و كيف تمشط شعرها حتي تبدو جميلة، و أنيقة؟ و مر وقت طويل قبل أن تسمع دقات خفيفة علي الباب، إنها أمها الطبيبة عادت من المشفي، و تسألها لماذا لم تتناولي العشاء حتي الآن ؟.
أخبرتها نسمة إنها ستتناول العشاء وتتناول الكعك أيضا في بيت صديقتها، لأن اليوم حفل عيد ميلادها، اندهشت الأم، وقالت لصغيرتها :” لكن الوقت تأخر، الساعة الآن العاشرة مساء، نحن في الشتاء، وأنت لم تخبريني بحفل صديقتك، من المؤكد أن الحفل انتهي !.
ماذا .. العاشرة مساء!! إن الحفل كان في السادسة ! كيف مضي الوقت سريعاً هكذا؟! لقد انشغلت حتي عن إبلاغك بالحفل، هكذا قالت نسمة وهي تبكي، ثم أمسكت بالهاتف، واتصلت ب”فريدة” و الدموع تملأ عينيها، بادرتها الصديقة قائلة:” لماذا لم تحضري يا نسمة، انتظرتك طويلاً، أنا وسائر الصديقات، كنت ستقضي وقتاً ممتعا ً معنا، لقد لعبنا، وضحكنا، وأكلنا الحلوي، وألتقطنا الصور التذكارية، غالبت نسمة دموعها وهي تقول : أعتذر يا صديقتي ، لقد أخطأت، ولم أتعمد ذلك” .
قد يهمك أيضا : في جزيرة الصحراء (azwaaq.com)
سامحتها صديقتها، لكن بقيت نسمة حزينة، إنه التردد الذي يعكر صفو حياتها، حاولت الأم أن تخفف عنها، وتحدثت معها طويلاً، لكنها رغم ذلك اتجهت إلي غرفتها والدموع في عينيها.
وفي الصباح استيقظت علي صوت أمها ، جاءت لتوقظها ، ودعتها للخروج معها في نزهة، الصغيرة فرحت، لكنها سرعان ما سألت أمها : لكن هل من الأفضل أن نتنزه أم نسافرأم تقضي أجازة الأسبوع بالبيت في هذا الطقس البارد؟! .
ابتسمت أمها في حنان، واحتضنت الطفلة الحائرة، ثم قالت لها وهي تختار ثياب ثقيلة ومعطف: دعيني آخذك في نزهة، أري أنها ستكون ممتعة ومفيدة! وحملت الطفلة معها ألوانها وأوراقها بناء علي اقتراح الأم قبل الخروج من البيت .
قد يهمك أيضا : موهبة : مريم ورداني .. مصورة وبطلة جمباز (azwaaq.com)
خرجت نسمة مع أمها، كانت سعيدة، لقد اكتشفت أن الطقس ليس بارداً كما كانت تعتقد، وأن البحر في مدينتها الساحلية، يمنح المكان أجواء دافئة، أخذتها الأم إلي شاطيء البحر، نظرت الطفلة إلي السماء، تأملت روعة تلاقى السماء بسطح البحر. وانبهرت بمنظر الحواف البيضاء للموج المرتفع المتسارع، و تمنت لو أنها تقفز معه لتعانق السحب، وتشاهد الأرض من أعلي !
رسمت الصغيرة المنظر في لوحة، و في لوحة أخري رسمت أمها وورائها السماء والبحر.
![](https://azwaaq.com/system/storage/app/public/news/img/1702668070-pexels-yan-krukau-8612974.jpg)
ثم اصطحبتها أمها إلي السوق، حيث يكتظ بالناس، وحركة البيع والشراء، تأملت الفتاة مايدور في السوق، وتأثرت به من مواقف إنسانية، فقررت أن ترسم بعض الباعة رسما حيا، بعد أن استأذنتهم.
وبعد ذلك توجهت بها الأم إلي متحف الفن الإسلامي، هناك تأملت فنون الخزف و الزجاج و المنسوجات و غير ذلك، ثم جلست ترسم وترسم .
قد يهمك أيضا : شارك في معسكر واستمتع بالمغامرة (azwaaq.com)
و في المساء عادت الطفلة مع أمها إلي البيت، كانت تشعر بالسعادة البالغة، لأنها لم تقع في الحيرة والتردد ، كانت تتخذ قرارها تجاه ما ترسمه دون تردد، لكنها سألت أمها : هل تعرفين السر يا أمي وراء عدم ترددي ؟! وهل كانت الأماكن التي أصطحبتني إليها مصادفة ؟.
قالت الأم : لا لم تكن مصادفة، لقد أردت أن تكوني أكثر قرباً من الطبيعة و الحياة، خارج جدران غرفتك، التي لا تتيح لك التعرف بشكل كاف علي ما يدور حولك.
وقالت الأم : “تذكري متي كنت ترسمين” ، قالت الطفلة : كنت أرسم بعد أن أتأمل المنظر جيداً، سواء في البحر أو السوق أو المتحف، قالت الأم : ولذلك رسمتي دون تردد، فقد تحققت لك المعرفة و الاستيعاب، والحب و تجدد الأجواء فاستطعت أن تجسدي ما وصلك في لوحات، وهكذا هي الحياة يا صغيرتي، إن حبها و التوجه للمعرفة و للآفاق الواسعة هو ما يرسم خطواتنا القادمة” .
وفي غرفتها احتضنت نسمة لوحاتها في سعادة ، ومنذ ذلك اليوم لم تقع في الحيرة، أو التردد طويلاً.