في هذا الزمن السريع الذي تتغير فيه ملامح العالم كل لحظة، لم يعد الصوت الأعلى هو الذي يخرج من منصة رسمية أو منبر تقليدي، بل بات ينطلق من “الترند”!.
أو للدقة من شاشة صغيرة مضيئة تحمل بين طياتها ملايين الأصوات المتداخلة.
فهناك وُلدت كلمة جديدة صارت لها سلطة تشبه سلطة الحاكم على شعبه: هي سلطة “الترند”.
هذه الكلمة التي قد تعني في ظاهرها مجرد ما يتداوله الناس بكثرة تحولت إلى سلاح ، إلى قوة إلى مرآة مشوشة أحيانا وصافية أحيانًا أخرى.
لكن صار الترند في كل الأحوال واقعًا لا يمكن تجاهله، وهو قضية شائكة متعددة الأبعاد أناقشها اليوم في أذواق .
الترند … مساحة لتلاقي أطراف مختلفة
وقد يبدو الترند وكأنه يعكس اهتمامات الناس لكنه في الحقيقة أكبر من ذلك وأعقد.
فهو مساحة يجتمع فيها الحلم بالغد مع خوف الحاضر، ويمتزج فيها الجد بالهزل.
كما تلتقي فيها أصوات الباحثين عن التغيير مع أولئك الذين يبحثون عن التسلية العابرة.
في لحظة واحدة قد ترى قصة إنسانية بسيطة تتصدر المشهد وتصل إلى ملايين البشر، بينما تتوارى خلفها أحداث جسام لم تجد من يمنحها دفعة في هذا الماراثون المجنون نحو الصدارة.
والغريب أن هذه القوة لم تأت من فراغ ، فالترند لا يعيش وحده بل يتغذى من الناس.
فنحن أمام كل “إعجاب” هو لبنة في بنائه، وكل “مشاركة” هي دفعة جديدة للأمام.
لكننا في الوقت نفسه أسرى لخوارزميات خفية تعرف أكثر مما نعرف عن أنفسنا، تحدد لنا ما نراه وما يغيب عن أعيننا.
هل نحن من نصنع الترند أم أنه هو من يصنعنا؟
وهنا تتقاطع إرادة الإنسان مع إرادة التقنية ويصبح السؤال: هل نحن من نصنع الترند أم الترند هو من يصنعنا؟ مع ذلك لا يمكن إنكار أنه منح الناس قوة لم يحلموا بها من قبل.
ومن أمثلة ذلك قصة طفل يحتاج إلى عملية جراحية قد تتحول في ساعات إلى حملة تبرعات ناجحة.
أومبادرة اجتماعية قد تجد طريقها إلى ملايين البشر فقط؛ لأن أحدهم قرر أن يضغط زر”مشاركة”.
بل إن الترند أجبر حكومات على مراجعة قراراتها، ولفت أنظار العالم إلى قضايا ما كان لها أن تجد منبراً لولا أن الناس حملوها بقلوبهم.
إقرأ أيضاً للكاتب :سحر الشاشات… كيف نحرر الأطفال من قبضة العالم الرقمي؟
الوجه الآخر للترند
في هذه اللحظات يصبح الترند قوة للخير، وأداة للتغيير، وصوتًا لمن لا صوت لهم.
فإذا كان الوجه الآخر قاتم بما يكفي ليحذرنا؛ فأنه قد يكون أحيانا ساحة للفتنة، أو مطية للشائعات.
كما قد يكون سيفا يقطع أعناق الأبرياء قبل أن تسعفهم الحقيقة.
والسرعة التي تجعل الترند مثيرًا هي نفسها التي تجعله خطرا، لأن ما ينتشر في دقائق قد يحتاج إلى أيام كي يُفنَّد أو يُكذَّب.
إقرأ أيضاً للكاتب :لماذا أعجبني مسلسل”وتر حساس”.. برغم الهجوم عليه؟!
الوعي في التعامل معه
وفي هذه الأيام يكون قد خلّف الترند ندوبًا في الوعي يصعب محوها.
أمام هذا الواقع يصبح المطلوب من كل فرد أن يتعامل معه بوعي جديد.
بحيث ندرك أن ما يتصدر لا يعني بالضرورة أنه الأهم، وأن ما يغيب لا يعني أنه بلا قيمة.
ومن المهم كذلك أن نختار ما نشارك فيه بعقل وقلب لا بمجرد إندفاع اللحظة.
وأن نحاول أن نصنع ترندنا نحن القائم على قيمنا وثقافتنا وهويتنا، لا أن ننجر وراء ما يُفرض علينا.
فهو ليس قدرا محتوما، بل هو إنعكاس لإرادتنا نحن.
وإذا كان البعض يرى الترند لعبة بيد الكبار، فإن الحقيقة أن لكل إنسان نصيبا فيها.
وكلما ازدادت قدرتنا على الوعي والاختيار ازدادت قدرتنا على تحويل هذه الأداة من سيف مسلط إلى شعلة نور.
من يقود من ؟
قد يقودنا الترند أحيانا وقد نقوده نحن أحياناً أخرى.
لكن الأجمل أن ندرك أننا في رقصة مستمرة معه نمنحه الحياة بقدر ما نمنحه من وقت واهتمام.
فإذا اخترنا أن نرتقي فإن الترند سيصبح مرآة تعكس أجمل ما فينا، وإذا استسلمنا، فإنه سيظل مرآة مشوهة تضخم تفاهاتنا وتقلل من جوهرنا.
إن السؤال الحقيقي ليس: من يقود من؟ بل: أي مستقبل نريد أن نُصدِّره نحن إلى الترند؟.
فإذا كانت الثورة الرقمية قد جعلت لكل فرد صوتا، فإنه هو اختبار هذا الصوت.
وهو اختبار يحدد إن كنا سنصنع وعيا جديدا يليق بنا، أم سنظل نلهث خلف صدى اللحظة؟.
وفي هذا الاختبار يكمن الفرق بين أمة تكتب مستقبلها، وأمة يكتب مستقبلها آخرون بالنيابة عنها.