تونس : شمس الدين العوني
سرد بمثابة القراءة التاريخية والعلمية لما حدث من تحولات وأحداث كبرى في إدانة بينة للانسان و عبثيته و توحشه تجاه الطبيعة
تظل الكتابة عموما و منها الكتابة الأدبية ذلك الفعل النبيل تجاه الذات و العالم وفق الوعي و الرغبة في القول و الافصاح عن الدواخل حيث الفكرة المشيرة الى الجمال الذي يكتب الكائنات و الأشياء و العناصر و التفاصيل في تنوع أحوالها و تلوينات عوالمها و أمزجتها و تحولاتها ..انها الكتابة الحالمة و المتقصدة في واقعها رغبة و افصاحا و تشوفا.
و الكتابة الأدبية و التي نخص منها و هنا الكتابة الابداعية و تحديدا الرواية هي في هذه المناخات المعلومة زائد توقها إلى إبداعية مخصوصة تتطلبها استحقاقاتها الجمالية كجنس له ما يميزه كثيراً من شحنات السردية العالية، والتي يتقبلها المتلقي على اختلاف درجات وعيه و ثقافته باعتبار ما توفره له من سحر و بهاء في التناول والتعاطي، سواء كان ذلك في لباسها الواقعي أوالوثائقي أو الكلاسيكي أو السيرذاتي أو الخيال علمي …أو الفانتاستيكي …و هكذا.
و لعل الرواية العربية التي هي حديثة كجنس أدبي فاق القرن على انبعاثه كأدب له فنياته قد مرت بمراحل متعددة لنشهد و إالآن تنوعا و تطورا في هذا النشاط الروائي نشراً و ترجمة و بروزا للجوائز المهمة التي زادت من نسب نشرها و انتشارها، حتى خيل للبعض بأنها حلت محل ديوان العرب الشعر في ترتيب أدبي متداول منذ القدم، و هو أن الشعر ديوان العرب.
الا أن هذا الفن الروائي شهد خاصة في السنوات الأخيرة، و مع تصاعد وتيرة النشر بفعل الجوائز العربية و الدولية تراجعا من حيث الجانب العميق والأصيل في الأسلوب، و في صياغة الأحداث و ابتكار التيمات و ما يسمى بفكرة الرواية ومسارات سردها وغلبت على عديد الروايات المنجزة حالات من التسرع و الافتعال واللعب على اتجاهات واشتراطات الجوائز و المؤسسات المانحة لها.
و على غرار السينما تماما صارت الرواية بعيدة بل انحرفت عن بيئتها فكأننا أمام نصوص مبتورة و غريبة عن ذاتها و لا تمنحنا و نحن نعالجها بالقراءة غير هذه النزعات المنبتة بدعوى العالمية، و ما إلى ذلك و لم يبق من تسميتها الروائية غير السرد ..إنها افتعالات و انفعالات متسرعة فقط..صحيح أن الكتابة تطلب الانفعال ولكن لبد لهذا الانفعال من أسس و تركيز جمالي في النص و متعة شاملة تماما كالشعر.
إن الرواية الحق هي التي تسرد أحوالها من شخصيات وأزمنة و أمكنة و تعقيدات و انتظارات وفق سحر بين جمال، و ما إلى ذلك في عمق و وعي سردي جمالي فائق و بهاء كامن في عناصرها المذكورة بعيدا عن الافتعال المكشوف…و كل ذلك جميل أن يتوفر أيضا في شعرية هي صميم و جوهر العمل الروائي.
قد يهمك أيضا : ” اليونان والاغتراب .. جرح دائم “…. خطابات وأشعار وذكريات (azwaaq.com)
هذا كله ..و غيره و لا نروم هنا التفصيل أكثر..يقودنا إلى محاولات البعض من الكتاب في مجال الرواية الى تمثل طبيعتها كفن سردي و السعي للمضي في أرضها ضربا و تخييلا و كتابة و لكن بنوايا مختلفة مهمة للخروج عن المألوف و المعتاد من تعاطي بعض كتاب الرواية معه، وذلك قولا بأن الابداع في الكتابة الروائية هو شأن خاص و يكون خارج القطيع باعتبار روح المغامرة المعنية بها الكتابة الأدبية بصفة عامة و منها الرواية .
من ضمن هذه المحاولات الجادة التي أخذتنا طوعا و كرها الى ما لمسناه فيها من سعي ورغبة في الخروج و نزوع نحو المبتكر وفق الواقعي والمربك فيه، و المشير إلى ممكنات متخيلة بحسب الكاتب عبراستقرائه للأحوال في التاريخ والأحداث والأرقام؛ ليكون كل هذا في سياق من شعرية النظر وغرائبية في التعاطي و ذهاب في اتجاهات شتى يمتزج فيها الواقعي بالسياسي بالاجتماعي، في تلوينات من الخيال و العلم و الفنتازيا…و هكذا.
و نعني هنا رواية الشاعر والكاتب الهادي جابالله الصادرة مؤخرا عن دارعليسة للنشر والتوزيع و عنوانها ” رواية “2160 ” ..في هذه الرواية يمضي الكاتب تجاه قارئه المهموم بأسئلة العالم في عقوده الأخيرة في تشوف نحو ممكنات حافة هي من قبيل القراءة التاريخية و العلمية؛ لما حدث من تحولات و أحداث كبرى ليقول من خلالها بطبيعة الما يحدث ووحشيته لدى الكائن و الطبيعة في سياق من إدانة بينة للإنسان .
هذا الانسان..إنسان هذه الأزمنة ومخاطر و الممارسات التي تنسبها هذه الرواية إليه في مجالات الحياة بين السياسي و الاجتماعي و الحضاري عموماً؛ حيث الأبرز هما هذه الجناية على ما هو جميل و طبيعي و نعني الطبيعة بشكل عام.
يذهب الكاتب الهادي جاب الله هنا في روايته ووفق رمزية تخيرها إلى مسافات زمنية لحوالي قرن و نصفه ليقول وفق العنوان الدال ودون تفصيل أو تفسير “2160” تاركا هذه العتبة بدلالاتها إلى القارئ الذي يعيش زمنه هذا ويتوغل في تفاصيل الرواية وشخصياتها و أحداثها المجال شاسعا؛ ليوائم بين الواقعي و الخيالي.
و قد عايش جانبا مهما من تفاصيل واردة في هذا العمل السردي الذي يرمي من ورائه الهادي إلى محاولة الخلخلة في مستوى الثيمة و النوع الكتابي بعيدا عن الاجترار والمسايرة لما يكتب فقد كانت رغبته بينة في الخروج عن المكتوب الروائي بروح فيها من مغامرات الكتابة الشعرية الكثير والموضوع المتعاطى معه.
من ذلك بساطة الحكاية المتخيلة و المبتكرة وشخصياتها وإطار حواراتها و حكاياتها و أحلامها و ذاكراتها لتشمل تنوعا في الشكل و الخطاب، وهنا نشير إلى ما وقفت عنده الكاتبة والناقدة نور الهدى باديس تجاه الرواية قائلة بأنها “مختلفة عن السائد يحتار قارئها في تصنيفها من حيث توارد الأشكال والأجناس الخطابية.”
كم من المعلومات و المعطيات و الإحصائيات العلمية تزخر بها الرواية، ويحسن مؤلفها استثمارها في كل مرة حيث يقدم لشخصياته و حكاياتهم المراوحة بين الواقعية و العجائبية، و ما هو علمي وإنساني؛ فالعالم يقبل على متغيرات رهيبة و بحسب الكاتب جاب الله و تبدلات عميقة هي من جوهر تعاطي إنسانه ( انسان هذا العالم ) مع واقعه و أحواله يذهب به كل ذلك نحو الآلة بعيدا عن الحالة تجاه واقع الروبوت و البرمجيات بمختلف تفاصيلها وأدواتها و تمظهراتها.
والكاتب هنا و هو يسرد صفحاته ال 138 إنطلاقا من كلمات هي ” ماذا تعني لي عصارات الأسئلة و معانيها و الاجابات حول كل ما يدور برأسي و رؤوس الآخرين أشباهي الذين ينتسبون الى الكائنات البشرية…” انتهاء إلى وبهذه الكلمات بالصفحة 138 “…غير أنهم صنفوها ضمن الوثيقة (إنها مدرجة في الخانة العجائبية التي تطرأ على كوكب الأرض ) .
و سماها آخرون ( انها نزر قليل من رائحة الأبدية زارت الأرض في لحظة خاطفة و فارقة قبل أن تعود أدراجها إلى مناخاتها الأصلية)…فانه يفصح عن شواسع الحيرة والأسئلة و القلق الناجم عن هذا الذي يدور بخلد الإنسان المتجه إلى أزمنة 2160 كما أرادت الرواية في نهجها السردي الذي تضمنته و هو يعايش كما من الأحداث الدالة و الأرقام المفزعة؛ حيث الإنطلاق من عوالم البيئة والمتغيرات المناخية في كل صلة بالإنسان المعاصر.
فنلتقي ب”خالد” من شخصيات الرواية، و هو رجل 170 سنة يأحذنا إلى كون الأسئلة في رواية 2160 ومنها مثلا : ماذا تعني الحقيقة بالنسبة إلي، مقارنة بهذا الرصيد الضخم للبشرية وأفعالها التي تأسست منذ أول ظهور للإنسان المفكر قبل ملايين السنين؟ أسئلة تفضي الى أسئلة أخرى تعري شيئا من حقيقة الواقع لتدين بعضه وتتنوع بتنوع شخصيات الرواية في أسلوب من المزج بين الخيال العلمي والواقعي و الطريف في نسيج درامي قدام زمن “2160” الذي يشهد تغيرا في الحياة و تفاصيلها كغيرها من أحداث قديمة عبر العصور وفق ما ذكره الكاتب بناء على تحولات شتى و تداعيات مربكة.
و منها حدوث “الكارثة الكبرى” بمدينة “رودة” و يأخذنا جاب الله وبحسب سرديته هذه إلى ما يقوله مثلا : …) لقد أكدت مخابر العلوم الطبية منذ النصف الأول للقرن التالي للحادثة أن إفرازات الحادثة الكبرى الانفجارية في أجزاء مهمة من شمال الكرة الأرضية، تمثلت في مادة نتجت من جراء التفاعل الكبيرالذي تداخل وفقه الفضاء الخارجي، وجزء من باطن الأرض وعمق البحار.
هذا التداخل العجيب أنتج مناخا هوائيا جديدا احتوى على مادة جديدة توسطت “الإيدروجان والأكسيجان” وهي المادة التي استنشقتها الكائنات التي بقيت على قيد الحياة والتي كانت مادة وراء تغيير كلي لجسم الإنسان وغرائزه ومذاقاته وجسر حياته المفترض…).
قد يهمك أيضا : زيارة إلى “جمعية المصريين اليونانيين ” في أثينا…90عاماً من العطاء (azwaaq.com)
هي فكرة الكاتب ضمن لعبة السرد و الأزمنة الغابرة و الراهنة و المقبلة ليقول بهذا الانسان المأزوم الذي يعيش حال ووضع الضحية و لما نجم عنه وعن سابقيه من تعد على الطبيعة ليعايش بالتالي.
و بالنتيجة مآلات الصنيع و السلوك و لكل ذلك ارتداداته و منها الأمراض و المآسي و الأوبئة و الكوارث ..إنه العجز حيث يقف الانسان حائرا أمام الكوارث و الأرقام و التقنية …لينعدم المعنى و الاحساس وما هو رمزي و قيمي…
و امام كل حالات التدهور و الفراغ لم تعد تنفع المكتشفات و منها دواء السال سال ففي هذه السردية و رمزيتها العالية يأخذنا إلى الفكرة و هي الإنسان في أزمنته بين الحالة و الآلة..بين الوردة و السكين.
أسئلة حافة بسردية ممتعة تذهب إلى الجوهر ولكنه وما في أعماق الإنسان خوفا عليه و منه ومن أن يناله الإنقراض والإندثار لفعله المشين المنكل بالطبيعة في إحالة إلى الانقراضات بكوكب الأرض: انقراض العصر الأردوفيسي وانقراض الديفوني المتأخر وانقراض العصر البرمي المتوسط والمتأخروانقراض العصر الترياسي المتأخر.
الروائي و الشاعر الهادي جاب الله في هذا العمل السردي لم يعنه حجم الرواية ليكتفي بحوالي 140 صفحة إيمانا منه بكون الكتابة ليست بالكم بل بالفكرة والجوهر، و ذلك قطعا مع الموضة الوافدة من حيث الروايات ذات مئات الصفحات، أيضا هو كتب رواية بقلق مخصوص هو قلق الشعر و الشعراء ليضع كل ذلك في إطار جامع لشخصيات و أسماء تبدو غير نمطية على غرار روايات أخرى دارجة، وهذه من لعب الشعر والكتابة الشعرية التي تذهب في ثنايا البحث و السعي للابتكار و الخروج عن الطرقات الآمنة و المطمئنة ..مناطق الرعب على عبارة الدكتور محمد لطفي اليوسفي.
كذلك التعاطي الذي انتهجه الكاتب في هذه الرواية مع ما هو من الأحداث السياسية و الاجتماعية حيث ابتعد عن المباشراتية ليرصد فقط ما تناغم مع نهجه الروائي و بذكاء السارد و الكاتب …و جملة عناصر لم نأت عليها جعلت من رواية “2160” للكاتب الهادي جاب الله محاولة نحو الخصوصية و الجدية في النظر و الوعي و التخييل ضمن الكتابة الروائية الراهنة في تونس فغنم الكاتب عموما و المسكون بهاجس الابداع خصوصا هو السير في هج فني أدبي مختلف ترنو فيه الذات الكاتبة الحالمة القلقة الى الامتاع و الاشباع و هي تواجه قارئها..قارئها الشغوف بالجديد..و ما هو متجدد مستفز و مربك و محير و لكن في غير تكلف و افتعال..
إن الكتابة حية تتطلب النظر بعين القلب لا بعين الوجه حيث الحواس و العناصر و الأشياء في تمام يقظتها و وعيها بالعالم و بالانسان و بما هو بينهما من أحوال.و الكتابة هنا و في رواية الحال التي نحن بصددها أبانت عن تزاحم أسئلة عند السارد في متن”2160″ وهي أسئلة باعثة على القلق و دالة علية حيث الاشارة الى صعوبة الامساك بهذا الواقع المتحرك عند الانسان للنأيبه عن عواقبه الوخيمة و لكن قدر الإنسان هو السيطرة على ذلك حفاظا على طبعته و طبيعة الأشياء و الحياة قتلا للتوحش وما به و معه و فيه ينتهي الانسان إلى رقم ..الى مجرد أرقام بلا روح و هوية و ذات..رواية “2160” للكاتب الهادي جاب الله هي سفر سردي يروم الاختلاف قولا بالإنسان و هو ينتصر للحالة…لا للآلهة .

الكاتب الهادي جاب الله