بقلم : الدكتور محمد فتحي عبد العال
خذها قاعدة عزيزي القارىء إن أردت أن تستكشف خبايا مجتمع، وتسبر أغواره عن كثب، وتتبع خيوط تاريخه، فعليك بأرشيف صحافته تقلب صفحاته على مهل وبإمعان!، خاصة مايتعلق بأرشيف الصحافة المصرية زمان والغني بالحكايات المشوقة و التي تزخر بالطرافة و العظة والدروس.
لذا فسيظل أرشيف ممتد مرآة عاكسة لواقع المصريين على إختلاف أطيافهم على مدار التاريخ، ومعيناً لا ينضب أمام الباحثين عن حياة العوام من الناس.
ويزداد ذلك خاصة في العصر الحديث، وهو التاريخ الذي لم يكتب حتى الآن، ولما كان التاريخ غالبا ما ينصب على أخبار أولى الأمر، وصفوة المجتمع ونجومه وبعض الغرائب في أيامهم كان لزاماً في المقابل إماطة اللثام عن قطوف من حياة الناس البسطاء.
وكذلك الكشف عن حلقات مفقودة من شكل قضاياهم الإجتماعية في مطلع القرن المنصرم؛ حتى تكتمل الصورة؛ لذا كان انتخابي لبعض طرائف هذه القضايا التي تكشف بجلاء عن صور مختلفة، ومتباينة عما ظنناه مثالياً في الماضي المنصرم.
وقد سبق أن جمعت أجزاء منها في كتابي “هوامش على دفتر أحوال مصر”، واليوم إخترت بعضها لأسرده في أذواق، وإليك عزيزي القاريء 3 حكايات من أرشيف الصحافة المصرية:
القضية الأولى : ماذا جاء في أرشيف الصحافة المصرية عن إبراهيم بك مهدي؟

من أغرب قضايا الاختلاس التي يحملها لنا أرشيف الصحافة المصرية قبل مائة عام، هي قضية إبراهيم بك مهدي أمين صندوق الدين العمومي، وكان مثالاً للثقة والإحترام طيلة فترة عمله الوظيفي قرابة 40 عاماً، وحينما بلغ سن التقاعد تم مد فترة خدمته لعام آخر .
حدث أن أراد إبراهيم بك أن يقوم بأجازته بعد إنتقال صندوق الدين إلى الإسكندرية وكان خليفته على عهدة الخزينة والمرشح الأوفر حظاً؛ ليحل محله وشغل منصبه هو صهره زوج ابنته سيد أفندي فهمي وكيل أمين صندوق الدين .
وذلك حينما جرد سيد أفندي خزينة الإسكندرية وجد عجزا قيمته 361 جنيها، كما وجد عجزا في رسالة من أكياس الأرز ، وكان إبراهيم بك يعول على أن صهره لن يفضحه، ويشي بسره، لكن العكس قد حدث.
إذ أن سيد أفندي رفع الأمر إلى المسيو كابرارا (الواضح أنه مسئول الصندوق من الأجانب)؛ فأمر بجرد الخزينة في غيبة إبراهيم بك؛ فوجد 35 كيسا مختوما مكتوب على كل كيس مائة جنيه، عاينها سيد أفندي فوجد إحداها ينقص وزنه عن المائة جنيه.
حاول إبراهيم بك التنصل من أمر عجز أكياس الأرز، وأن يلقي باللائمة على الفراشين؛ فقال له المسيو كابرارا في “نظرات لا تخلو من معنى”: ” الفراشين يأكلوا الرز فوق والفيران يأكلوا الفضة في الخزانة تحت”. بعد جرد محتويات الخزينة بشكل كامل من سندات، ونقود وأوراق مالية، بلغ مجموع العجز 6611 جنيها تعهد إبراهيم بك بردها؛ فأمهله المسيو أربعة أيام لتدبيرالمبلغ.
لكن يكشف لنا أرشيف الصحف زمان لكم كان حظ إبراهيم بك مهدي عاثرا أن يتزامن مع مأزقه وفاة حماته، وكان متولياً إدارة شئون وقفها، وكيلاً عن زوجته وأختيها، وكان قد أضمر في نفسه أن يسدد العجز من مبالغ ىإيجار الوقف.
لكن الغريب أنه حينما علمت موكلاته، ومن بينهن زوجته بالعجز، سحبن التوكيل، وعزمن أن يتولين التأجير بأنفسهن ، وحاول إبراهيم بك عبثا أن يقنع زوجته أن تسدد عنه دينه.
لكنها رفضت، فوسط ابنته زوجة سيد أفندي لإقناعها لكنها صممت على الرفض، ووجد الرجل أن الأبواب كلها موصدة في وجهه، ولا حيلة لديه.
إنتحار إبراهيم بك مهدي
وهنا قرر الانتحار في غرفة استأجرها في فندق مودرن الكائن عند ملتقى شارعي عماد الدين والملكة نازلي؛ حيث قام بنشنق نفسه بأن ربط حبلاً بأحد عمدان سريرغرفته بعد أن كساه بقطعة من القماش؛ حتى لا يؤلمه عند اشتداد ضغطه حول عنقه.
ووجد بجواره مذكرات بخط يده، يشير فيها لكونه غير مسؤول عن مبلغ العجز ملقياً المسؤولية على غيره من كبار موظفي البنك، كما تضمنت كلمات السب والشتم !! وذلك بحسب مجلة “الدنيا المصورة” 1929 م
إقرأ في أذواق : من ذكرياتي الفنية … للآنسة أم كلثوم
تتلاقى هذه القصة في خيوطها مع حكاية طريفة، جاءت في أرشيف الصحافة المصرية، عرضتها في سبتمبر 1947 م، تحت عنوان ” زبال ولكن ” لأحد كبار الموظفين، عن ذكرياته، حينما كان موظفاً في وزارة الأوقاف.
حيث خشي على عهدته البالغة 500 جنيه؛ فوضعها في حافظته وذهب إلى داره، وتصادف أن خادما جديدا جاء للعمل لديه فغافله، وسرق الحافظة، وخبأها في صندوق “الزبالة “، وإذا بزوجة الموظف تتخلص من ” ” الزبالة “، ومن بينها الحافظة.
ساورت الموظف الشكوك حول خادمه الجديد؛ فضغط عليه، حتى اعترف فمضى به لقسم البوليس لتحرير محضر رسمي، لكن الخادم أنكر اعترافه السابق.
وبينما الموظف يحاول تدبير المبلغ خشية افتضاح أمره، واتهامه بالإختلاس، إذا برسول من القسم يطرق بابه بأن أحد الزبالين، وجد حافظة لها نفس مواصفات حافظته؛ فتهلل وجهه، وذهب إلى القسم؛ لاستلامها.
ووعد الموظف “الزبال” أن يمنحه المكافأة القانونية، وهي عشر المبلغ، ولكن على أقساط، ومن وقتها وصار الزبال من أعز أصدقائه!.
القضية الثانية : زينب وإبنها زكي من أغرب قضايا أرشيف الصحافة المصرية

تظل جرائم الإبتزاز من صور القضايا الخانقة التي يقع فيها كثير من الناس المشهود لهم بحسن النية وسلامة الطوية في غالب الأمر ، لكن بلوغ ذروة المرارة فيها حينما تصدر من الأقرباء وأي أقرباء ؟! إنها الأم.
لذا ففي قصتنا هذه من أرشيف الصحافة المصرية عبرة وعظة في مجلة “مصر الحديثة” المصورة العدد ٣٤ في ٢٦-٢-١٩٣٠م (٢٧ رمضان) أنه وفي نحو عام ١٩٠٠م تزوج عم” حسن” بائع الحلوى بباب الشعرية من” زينب السيد أحمد “.
وأنجب منها “زكي”، فلما تزوج بأخرى غضبت، وقررت الإنتقام منه؛ فتركت له ابنه في المحل فحرر لها محضر في قسم البوليس، وهناك تنكرت لبنوة الطفل فطلقها.
كبر “زكي”، وإلتحق عام ١٩١٦م بمصنع العلب بفابريقة ملكونيان إنبلاس، وكان مرتبه ٣٥ قرشا أسبوعيا فطمعت الأم أن يكون لها قسما من دخل ابنها، والواضح أنه لم يكن يبرها في الكبر؛ رداً على قسوتها معه في الصغر.
فذهبت للمحل الذي يعمل به إبنها، وطلبت مقابلة المدير، أو الخواجه “الكومندة”، وراحت تبكي، وتندب قائلة: “جعانة يا سيدي الخواجة يخلصك وإبني عندكم قد الدنيا ؟! .
“فاستدعى المدير “زكي” والذي أنكرها قائلا : “أمي ؟!، أبدا أنا معرفكيش، إنت كدابه اللي ما شفتك قبل كدا أبدا”، لكن دموع الأم جعلت المدير يلزمه بدفع عشرة قروش أسبوعيا من راتبه لصالحها.
فخرجت تدعو للخواجات ومستنزلة اللعنات على إبنها البخيل قاسي القلب، ومع زيادات مرتبه راحت تطالبه بزيادات مقابلة، حتى وصلت بنصيبها المقتطع من راتبه لثلاثين قرشا أسبوعيا .
في عام ١٩٢٢ تم استدعاء “زكي” للخدمة العسكرية؛ فساومته أمه على الإعتراف بأنه يعولها؛ حتى يحصل على الإعفاء؛ مقابل أن يدفع لها عشرة جنيهات أي نصف قيمة البدل!.
دفع “زكي” مجبراً ثلاثة جنيهات على أن يسدد الباقي لاحقاً، لكنه نكث وعده؛ فتقدمت ببلاغات لوزارة الحربية بأنها أثبتت بيانات غير صحيحة، من أن إبنها يعولها، وأنه خدعها، كما تقدمت ببلاغ للبوليس تتهمه بعدم الإنفاق عليها!.
وهنا أحضر إيصالاً بمبلغ ثلاثين قرشا موقعاً منها، وأن مثل هذا المبلغ يدفعه لها أسبوعيا، حاولت الأم أن تستميل ابنها للعيش معها، وربما كان ذلك لتدفع عنه تأثير أبيه، لكنه أبى وصمم على الإباء.
فقررت الأم هنا الانتقام منه، بأن أدعت أمام نيابة الموسكي أن ابنها كسر ذراعها وأسنانها مستغلة ليونة إحدى يديها؛ كدليل على الإدعاء الذي حفظ لعدم كفاية الأدلة .
في عام ١٩٢٧م حينما استقل ابنها وفتح محلاً للحلوى رفعت قضية نفقة عليه، وحصلت على الحكم من محكمة الجمالية الشرعية بمبلغ تسعين قرشا شهريا وخمسة عشر قرشا كسوة وثلاثين قرشا مسكن، ثم أعقبتها بدعوى أخرى لزيادة النفقة شطبت لعجز الابن عن الوفاء بذلك.
لكنها لم تستسلم فأقامت دعوى أمام محكمة الوايلي تطالب بمبلغ ٨٦٠ قرشا والمصاريف، وحصلت على أمر بالحجز التحفظي على ابنها .فلما أظهر الابن إيصالات بالمخالصة شطبت الدعوى في جلسة ٢٩ ديسمبر ١٩٢٩م.
لكنها أعادت الكرة، وتم الحجز بمبلغ ١٠٨٠ قرشا في ٨ فبراير ١٩٣٠م ، فقدم “زكي” إيصالاته مجددا ليصبح مجموع البلاغات والقضايا أربع وأربعين لتصبح قضية عم حسن و زينب و إبنهما من أغرب قضايا أرشيف الصحافة المصرية.!!!..
إقرأ أيضاً :زبيدة ثروت بعد الشهرة
القضية الثالثة :حكاية حسن و الإيطالية الحسناء من أرشيف الصحافة المصرية

تعد قضايا النصب من الأمور الشائكة في المجتمع، ولعل من أغرب ما وثقه أرشيف الصحافة المصرية قبل إثنين وتسعين عاماً مضت، وتصلح تفاصيلها أن تكون عملاً درامياً بامتياز، لم تكن خيوط منها قد استخدمت بالفعل في أعمال سينمائية أو تليفزيونية أو مسرحية سابقة.
هذه القضية في ٣ فبراير ١٩٣٢م ( ٢٦رمضان ) وقصة “حسن عبده” من أهالي الدقهلية عمره ثلاثة وثلاثين عاما، ويعمل مدرسا في مدرسة الرشاد في المنصورة .
كان “حسن عبده ” يمتلك من المؤهلات الشخصية؛ ما سهل له الصعود السريع؛ فقد كان قوي الشخصية، ذو نفوذ كبيرعلى محيطه، متوقد الذكاء، علاوة على إجادته للغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية واليونانية بشكل مدهش.
وكانت هذه الإجادة للغات المختلفة من أسباب نجاحه؛ فسرعان ما أصبح سكرتيرا لدولة “محمد محمود باشا “أثناء رحلته لأمريكا؛ للاتصال بالمستر “فولك ” عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي انتدبه الوفد المصري للدفاع عن القضية المصرية في أمريكا.
ثم أصبح سكرتيرا شرفيا للمفوضية البريطانية في جدة، وأخيرا سكرتيرا لشركة نترات الشيلى في مصر ، وكان لحسن صديق من موظفي إحدى المفوضيات الأجنب، ولها شقيقة لا تقل عنها جمالاً، وحاصلة على شهادة التجارة العليا.
لما رآها “حسن” هام بها، وأخذ يوهمها أنه موظف كبير، يتقاضى مرتبا باهظاً، وراح يغدق عليها الهدايا والعطايا؛ حتى وقعت في شباكه، ومما زاد من حبها وإعجابها به، درجة بلاغة خطاباته الإيطالية التي ترتقي أن تكون من نفائس الأدب الإيطالي.
واعتنقت الإسلام، وتزوجت به زواجاً شرعياً، وكان إغداق “حسن” للمال الوفير على زوجته الحسناء، أحد أسبابه للجوء للنصب؛ إذ كان من المحال بمكان أن يوفر له راتبه البسيط، كل هذه المتطلبات؛ فراح يستغل وظيفته في الشركة للكسب غير المشروع.
وأوهم البعض بقدرته على توظيفهم في الشركة، نظير “سمسرة مالية “، تدفع له، ومن بين من خدعهم شخص يدعى “زكي أفندي سمعان ” دفع له عشرة جنيهات؛ ليلحقه بالشركة وراح يماطله؛ فتسرب الخبر إلى الشركة، والتي اتخذت قرارا بفصله؛ بسبب أعماله التي أساءت لسمعتها .
وذلك عن طريق حماته، التي أرادت مساعدته في الحصول على سمسرة، تعرف “حسن ” على وجيه فلسطيني من موظفي الحكومة المصرية يقيم في يافا، ويمتلك عزبة في الجيزة، يريد بيعها؛ ليشتري أرضا في فلسطين، التي أصبح مستقر فيها بعد خروجه من الخدمة .
ويكشف حتى يحكم “حسن ” الفخ حول صيده الجديد؛ فقد ذهب إلى “أحمد أفندي خيري”، وكيل شركة “نترات الشيلي”، وأوهمه أنه يعمل لصالح شركة إنجليزية جديدة في مصر.
وأنه يريد مساعدته في إجراء معاينة لعزبة، وإعداد تقرير عن مساحتها وقيمتها من الباطن، دون إخبار صاحب العزبة؛ حتى لا يضيع عليه مبلغ السمسرة، إذا عرف صاحب العزبة الجديدة.
واتفق معها مباشرة ..فتحمس “أحمد أفندي خيري” لهذه المهمة وهو يظن أنه يسدي معروفا ومساعدة لمرؤوسه الذكي السابق تشجيعا له في عمله الجديد .
وأوهم حسن صاحب العزبة الذي حضر خصيصاً من فلسطين، بأن شركة “نترات شيلي” ستشتري العزبة بثمن كبير، وستوفد مهندس زراعي “أحمد أفندي خيري” لمعاينة العزبة، فابتلع الرجل المسكين الطعم، حينما رأى “أحمد أفندي خيري” يعاين العزبة بالفعل .
هل نجحت خطة حسن ؟
وفق أرشيف الصحافة المصرية نجحت خطة “حسن “الماكرة، وراح يحصل على المال من صاحب العزبة، حتى وصلت المبالغ التي حصل عليها خمسين جنيها، موهما إياه بأن تأخر الشركة في إتمام الصفقة، ودفع الثمن هو من قبيل الروتين الموجود في كل الشركات، وأن البيع واقع لاشك فيه .
حدث تحول كبير في مسار “حسن”، وبدأ يتجه للنصب على مستويات أكبر، وبحيل مبتكرة، وذلك بعدما تعرف على المستر “لانج”، وهو من كبار موظفي الحكومة المصرية، وخرج لتوه من الخدمة.
واحتال عليه وأوهمه بأن أحد أصحاب الملايين الأمريكيين، ويدعى المستر “هارت ” أراد أن يؤسس شركة كبيرة في مصر للمحصولات المصرية عبر شراء الأراضي المصرية، وزراعتها، وشراء أسطول من الطائرات لنقلها إلى أوروبا.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف فقد عهد لرجل أعمال بريطاني يقيم بالأسكندرية، ويدعى “جيمس كلارك ” لتنفيذ هذا المشروع المشروع الواعد، وأن الأخير بدوره اتفق مع “حسن “؛ لعمل اللازم لتأسيس الشركة برأس مال 200 ألف جنيه.
وحتى يحكم “حسن” خدعته فقد استأجر شقة كبيرة بعمارة بهلر بشارع قصر النيل إيجارها الشهري خمسة عشر جنيها كما اتفق مع بعض شركات الأثاث الأجنبية أن تورد له أثاثاً، على أن يدفع ثمنه مؤخرا فبدا المكتب كما لو كان لشركة بريطانية كبيرة تحمل اسم شركة المنتجات الزراعية المصرية البريطانية ، باللغتين العربية والإنجليزية .
كما أرسل لمستر “لانج” خطابا في البريد موقعا باسم “جيمس كلارك”، يبشره بتعيينه مديرا عاما لفرعها في مصر، براتب سنوي قدره ألف جنيه، ثم 300جنيه مقابل تعيينه عضواً في مجلس إدارة الشركة.
سال لعاب مستر “لانج” لهذا العرض السخي، وابتلع الطعم تماما، وهو يشعر بعظيم الامتنان لوساطة “حسن” فيه وأصبح أشبه بآلة في يد “حسن” يستخدمها في النصب تحت ستار شركته الوهمية المزعومة!.
راح “حسن” يغري أصدقائه من الموظفين على ترك وظائفهم، والالتحاق بالشركة الكبيرة بمرتبات تتراوح بين 20و 50جنيها، ويحصل من كل واحد منهم على عمولة لنفسه مقابل ذلك.
كما انطلق في المديريات لشراء العزب والأراضي أو استئجارها للشركة بأسعار كبيرة، ويحصل على سمسرة لنفسه، فكان يعرض إيجارا سنويا يتراوح بين 15 جنيها و20 جنيها للفدان، بعقود لمدة ست سنوات في وقت كان الفدان لا يؤجر بأكثر من4 جنيهات .
وأصحاب الأراضي ومنهم مطربة مشهورة تمتلك مائة وستين فدانا في مديرية الدقهلية ودكتور شهير اعتبروا “حسن” ملاكا هبط عليهم من السماء ودفعوا له مبالغ باهظة سمسرة له .
بدأ المستر “لانج” يرتاب في أمر الشركة مع تأخر الرواتب؛ فحاول “حسن ” طمأنته بأنه استلم تلغرافا من المستر “جيمس كلارك “المدير العام، بأنه أرسل تحويلا ماليا بمبلغ خمسة آلاف جنيه على أحد المصارف لدفع مرتبات موظفي الشركة.
لكن المستر “لانج ” احتد على “حسن ” فخرج الأخير غاضبا ثم عاد أدراجه مرة أخرى ليخبره أن المستر “كلارك “أرسل برقية يدعوه وكبار موظفي الشركة لمقابلته في فندق “البيت الحديد” في بورسعيد؛ ليدفع لهم “كلارك” رواتبهم عن بضعة شهور مقدما، وليتعرف بهم ويبلغهم تعليماته .
لم يكن أمام المستر “لانج ” سوى تصديق “حسن ” للمرة الأخيرة؛ فسافر من من فوره وبرفقته موظفي الشركة، وطبعا لم يجدوا لمستر “كلارك ” المزعوم أثراً، في هذه الأثناء تقدمت شركة الأثاث ببلاغ للبوليس لعدم سداد المبالغ المستحقة لها، فيما حجز صاحب المنزل على الأثاث، وفاءا لقيمة الإيجار .
هنا انكشف أمر الشركة للجميع؛ فأسرع المستر “لانج” بتقديم بلاغ للنيابة هو الآخر.، وحكم على ” حسن” بالسجن الغيابي مدة عامين، ثم قبض عليه في أحد المقاهي بمعرفة مأمور قسم عابدين .
الطريف أن قصة “حسن ” لم تنته عند هذا الحد، فبينما يقضي الأشهر الأخيرة الباقية من سجنه بلغه خبر وفاة ابن عمه ” عبد العزيز خضر ” المقيم في جنوب إفريقيا، وقد أوصى له بتركته المقدرة بمائة وثمانين ألف جنيه مودعة بأحد المصارف.
إقرأ أيضاً : 50 عاماً على رحيل أم كلثوم : العقاد يكشف سر تفرد كوكب الشرق
وقد حضر محام هندي خصيصا لمصر أقام في فندق “الكونتنتال ” للبحث عنه، إلى أن علم بأمر القضية وأنه نزيل سجن الإصلاحية، فتم إبلاغه بواسطة مسؤولي السجن بأمر الثروة التي هبطت عليه من السماء، وذلك بحسب ما جاء في العدد 996 من مجلة “اللطائف المصورة” في 12مارس 1934م .
سر ثروة حسن وفق أرشيف الصحف المصرية
لكن ما الذي دفع ابن عمه أن يخصه بهذه الثروة ؟، قدمت “اللطائف المصورة” تفسيراً لذلك؛ بأن “حسن” كان قد سافر إلى إنجلترا للتخصص في التربية والتعليم، ثم عاد إلى مصر عام 1912م، وأهلته لغته الإنجليزية الطليقة أن يعمل سكرتيرا لمدير قسم الضبط بالداخلية “جورج موريس بك”.
وفي هذه الآونة اقترف ابن عمه المذكور جريمة؛ فسهل له “حسن” بحكم منصبه سبيل الفرار من القاهرة إلى محل مجهول سافر بعده واختفى أثره .
والواضح أن هذه المسألة بقيت طي الكتمان، ولم تؤثر على مستقبل “حسن” الوظيفي في الداخلية؛ إذ أصبح سكرتيرا لمحمد بدر الدين بك مدير الأمن العام ، ورافقه إلى تركيا وسويسرا وإيطاليا؛ للتحقيق في حادث الاعتداء على الخديو السابق عباس حلمي الثاني عام 1914م.
والجلي أن “عبد العزيز” كان ينتظر الفرصة ليرد الجميل لحسن؛ فانتظر حتى تأتي ساعة نهايته؛ ليهدي “حسن” هذه الثروة الطائلة من بعده..
وعلى الرغم من ذلك كان هناك توجس لدى الصحافة من أن تكون حيلة جديدة من “حسن”، لكن لماذا ؟! وماذا سيجني منها ولازال في الحبس ؟.!، هذا ما صمت عنه أرشيف الصحافة المصرية للأبد، وذلك في حدود بحثي المتواضع .
الأرشيف الصحفي المصري زمان يسرد التاريخ
وكما رأينا وسنرى في حلقات قادمة، فقضايا المجتمع المصري المتنوعة والشائكة متصلة على الدوام لها جذور راسخة من ماضيهم، على عكس ما تسلل لمفاهيم الناس واختلط بأحلامهم، وامتزج بأوهامهم عن ماض مثالي ظنوه مثمراً ًوالساكن بظلاله دون أن يحرك ساكنا؛ لبلوغ أمل في إحلاله كالمستجير بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
وعليه فحكمة التاريخ والتراث تظل في بناء أفكار لحل مشكلات الماضي؛ كي لا تظل متكررة بحذافيرها، مطلة بمشاهدها وهذا دورمجتمعي واجب النفاذ، ويكشف عن الكثير من جوانبه أرشيف الصحافة المصرية.