الذين مرّوا بنا ثم اختفوا …. ليست كل الخسارات مدوية، ولا كل الغيابات واضحة المعالم.
بعضهم يمرّ بنا كنسمة هادئة، لاتترك ضجيجاً، لكنها تترك شيئا آخر لا نعرف كيف نصفه، ربما فراغ لا يُملأ، صوت لا يغيب، ونسخة منّا لم نعد إليها أبدا.
إقرأ أيضاً للكاتب : الذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق : أم كلثوم أسطورة تتحدى الزمن
الذين مرّوا بنا ثم اختفوا … لم يغادروا حقاً !
هؤلاء الذين عبروا ثم اختفوا لم يغادروا حقا؛ لقد استقروا في الأعماق، في مكان ما بين القلب والذاكرة، في الزاوية التي تغيّر فيها كل شيء دون أن ننتبه.
في حياة كل واحد منّا أسماء لا تُذكر كثيراً، وقد لاتذكر إطلاقاً أمام الآخرين، لكن لها القدرة على قلب الطاولة في داخلنا كلما مرّ طيفها.
أشخاص لم يمكثوا طويلاً ربما، لكنهم كانوا كفاية لتُعاد هندسة الروح من جديد.
الذين مرّوا بنا ثم اختفوا مفترق طرق داخلي
كانوا أقرب إلى مفترق طرق داخلي، دخلناهم ونحن شيء، وخرجوا منّا ونحن شيء آخر.
ربما أحببناهم حبّا صامتاً، أو ربما تشاركنا معهم تفاصيل صغيرة لم يرها أحد سوانا.
وربما فقط شعرنا معهم أننا نحن… دون أقنعة. ثم لسبب ما إنسحبوا، لا خلاف كبير، لا وداع درامي. فقط اختفوا، وانتهت الحكاية على غير المتوقع، لكن تأثيرها لم ينتهِ أبداً.
إقرأ أيضاً للكاتب : الصداقة .. الحصن الذي يواجه رياح الحياة
محطات تُغيّر مسار العمر
ما لا يفهمه الكثيرون أن بعض العلاقات ليست حكايات تُروى، بل هي محطات تُغيّر مسار العمر.
لا نكتبها كثيراً لكننا نحيا بها. لا نتحدث عنها لكننا نفكر فيها كلما مررنا بنفس المكان، أواستمعنا إلى نفس الأغنية، أو دخلنا مكاناً يشبه أول لقاء.
هي العلاقات التي لا تُنسى، لا لأنها مثالية، بل لأنها كانت حقيقية بشكل أربك كل ما بعدها.
الذين مرّوا بنا ثم اختفوا… وتركوا فينا ذلك السؤال الكبير: ماذا كنّا سنكون لو لم يرحلوا؟!.
هذا السؤال الذي لا إجابة له لكنه يزورنا كل مساء، ويجلس معنا في هدوء اللحظات، ويحرك فينا تلك النسخة التي كانت تحلم وتثق وتُحب بصدق قبل أن تُخدش.
الغياب … ماذا يصنع بنا؟
بعض الغياب لا يسرق الأشخاص فقط، بل يسرق النُسخة الأجمل منا.
بعدهم لم نعد نضحك بنفس الطريقة، ولا ننتظر كما كنا ننتظر، ولا نصدق بسهولة.
نُصبح أكثر تحفظا، أقل إندفاعا نخاف من القرب كأنه فخ، ومن الحب كأنه قنبلة مؤجلة.
لا لأننا قساة، بل لأننا نتذكر جيدا كيف كان الرحيل الأول قاتلاً رغم نعومته.
هناك لحظات لا تُنسى لأن فيها شيئًا من الحياة الأولى، أول مرة شعرت فيها أن أحدا يفهمك دون أن تشرح. أول مرة رأيت نفسك في عيون شخص آخر فأحببتها.
أول مرة صدّقت أن أحدهم قد يبقى. ثم لم يبقَ، وهذا هو الشيء القاسي في “المرور” من دون بقاء.
أنه يعلّمك كيف تتذوق الحياة بطعمها الحقيقي ثم يُحرمك منها دفعة واحدة، أن ترى كيف يكون القلب حيا ثم تعود إلى صمت داخلي لا يفهمه أحد.
إقرأ أيضاً للكاتب : كلماتنا تصنع الحياة
لم نعد كما كنّا
ولأننا لا نجيد الحسم دائما فإننا نُبقي أبوابا مفتوحة من الداخل.
نترك مكانًا فارغا في المقعد المقابل، أو نحتفظ برقم لا نحادثه ولن نحادثه .
أو نسمح لأغنية قديمة أن تُعيدنا إلى هناك، إلى أول نظرة، وأول ضحكة، وأول مرة قلنا فيها “أنا مرتاح”.
ثم نعود إلى الواقع ونبتسم كأن شيئًا لم يكن ، لكننا نعرف أننا لم نعد كما كنّا.
وقد يُخدَع بنا الآخرون، يظنوننا بخير، يروننا نضحك، ونعيش، لكن الحقيقة أننا في مكان ما لم نغادر تلك اللحظة.
فلنعترف بماصنعه داخلنا هؤلاء الذين مرّوا بنا ثم اختفوا
ما زلنا هناك. نُعيد قراءة الرسائل، نفتح الصور، نبحث عن ملامحهم في الوجوه المارة، ونُقارن دون أن نُدرك.
لأن أولئك الذين لمسوا الروح لا يغادرون حقا، إنما يغيبون فقط بالجسد، لكنهم يسكنوننا بطريقتهم.
وهذه ليست دعوة للحزن أو الغرق في الماضي، بل دعوة للاعتراف: نعم، هناك من غيّرنا إلى الأبد.
من أضاء فينا زاوية لم نعرفها، أو أنقذنا من أنفسنا دون أن يقصد، أو منحنا مشاعر نبيلة، أو لحظة صدق لا تُقدّر بثمن.
هؤلاء لا يجب أن نندم على لقائهم، بل نشكر الحياة لأنهم مرّوا… حتى لو كانوا عابرين.
إن الذاكرة لا تختار. لكنها تُبقي الأغلى حتى لو كان الأقصر زمنا، . وما يبقى من العلاقات في النهاية ليس مدتها ، بل أثرها.
كان حضورهم أجمل ما حدث
وهناك من عبروا سريعاً… لكنهم تركوا أثراً لا يُمحى، وصوتا لا يخفت، ونداءً داخليّا يهمس: “كانوا هنا وكان حضورهم أجمل ما حدث.
في كل مرة نقف أمام المرآة، ونتأمل ملامحنا ربما لا نرى الفرق، لكننا نُدركه.
لقد تغيّر شيء ما فينا، صرنا أكثر حذراً، أكثر صمتا، وأحيانا أكثر نضجا.
وهؤلاء الذين مرّوا بنا ثم اختفوا، وهؤلاء الذين غيّرونا لم يكونوا دروساً، بل كانوا جزءًا من رحلتنا نحو أنفسنا.
وكلما سألنا: “لماذا اختفوا؟”، نُدرك أن بعض الحكايات لا تُكتب للنهاية، بل لتُوقظ شيئا ما ثم ترحل.
وعلينا نحن أن نكمل، نحمل الوجع بجوار الإمتنان ونمضي.
نُدرك أن الحياة تمضي، لكنها لا تُنهي الحكاية، فقط تضعها في صندوق الذكرى… وتعلّمنا أن نُحبّ من جديد، لكن هذه المرة دون أن ننتظر أن يبقى أحد.