في الماضي كنا نخشى الجهل وأهله، كنا نعتبرهم مصدرًا للمصائب والكوارث. أما اليوم، وبعد أن تقدمت البشرية وخطت خطواتها الواسعة في عالم الاتصالات والمعلومات، اكتشفنا أن هناك خطرًا أعظم وأدهى، خطرًا يتفوق على الجهل نفسه بمراحل، إنه خطر “أنصاف المتعلمين” !.
تلك الفئة … ـ أنصاف المتعلمين ـ التي تظن أنها وصلت إلى قمة الفهم والعلم والحكمة بمجرد أن تقرأ بضعة عناوين لها على شبكة الإنترنت، أو مشاهدة مقطع فيديو لا يتجاوز الدقائق.
من أمنياتنا الماضية ان تنتشر المعرفة كالماء والهواء، وأن تنخفض تكلفة الوصول إليها، وانتشرت العديد من المبادرات الداعمة لذلك مثل Open Access Initiative وغيرها الكثير .
ولكننا لم نتوقع أن يأتي معها هذا الفيروس الجديد الذي يحوّل كل من يتعرض له إلى “فيلسوف عصره” أو”حكيم الحكماء”.
إقرأ أيضاً : عفواً… في المعرفة “مالكش حجة”!
الفارق بين الجاهل وأنصاف المتعلمين
والجاهل نوعان، الأول يجهل ولا يعلم انه يجهل، والنوع الثاني هو الجاهل الذي يعرف أنه لا يعلم.
وفى الحالتين يستطيع المحيطون به التعرف عليه، وتمييز جهله بسهولة، أما “نصف المتعلم” فهو يظن أنه يعلم كل شيء، وهي الكارثة بعينها.
الجاهل قد يسأل، قد يستمع، قد يصمت وفى جميع الأحوال هو مكشوف.
أما “أنصاف المتعلمين”، فلا يسألون، بل يفتون. لا يستمعون، بل يجادلون. لا يصمتون، بل يثرثرون، وليس من السهولة بمكان اكتشافهم.
الإنترنت ساعد على إنتشار أنصاف المتعلمين
والحقيقة ان شبكة الانترنت تلك التي وعدتنا بالرخاء الفكري، إلا انها ساهمت وبقوة في انتشار هذه الفئة الجديدة من البشر بشكل لم يسبق له مثيل.
فبضغطة زر، أصبح بإمكان أي شخص الوصول إلى كم هائل من المعلومات، الصحيح منها والمغلوط، المفيد منها والضار.
ولكن المشكلة ليست في وفرة المعلومات، بل في طريقة التعامل معها ومعالجتها وتحليلها.
إن “نصف المتعلم” لا يكلّف نفسه عناء التحقق من المصادر، ولا يجهد عقله في التمييز بين الغث والسمين.
كل ما يراه على شاشة هاتفه الذكي يصبح حقيقة مطلقة، وكل ما يقرأه في “منشور” أو يشاهده في مقطع فيديو قصير يعتبره كذلك.
دعونا نتخيل “نصف المتعلم” في حالته الطبيعية حين يجلس أمام شاشته!.
إنه يقرأ مقالًا عن نظرية المؤامرة الكبرى، ثم ينتقل إلى فيديو يشرح كيف أن الأرض مسطحة.
ثم يختم جولته بمنشور على الفيسبوك يدّعي أن التطعيمات تسبب التوحد!.
ففي غضون ساعات قليلة، يتحول هذا الكائن المسالم إلى خبير في الأوبئة.
ولامانع أن يصبح جيولوجي بارع، ومحلل سياسي من الطراز الأول، وكل هذا يحدث وهو لم يغادر أريكة منزله المريحة، ولم يفتح كتابًا واحدًا، ولم يناقش متخصصًا واحدًا.
إقرأ أيضاً للكاتب : العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية
الكارثة الكبرى
الكارثة الكبرى أتت مع شبكات التواصل الاجتماعي، تلك التي يمكن أن تصنف كنعمة وكنقمة في نفس الوقت.
فلقد أصبحت هذه الشبكات هي المنبر الذهبي لأنصاف المتعلمين. كل واحد منهم صار “محللًا استراتيجيًا” في الشؤون الدولية.
وطبيبا نفسيًا يقدم النصائح العشوائية، ومفتيا” دينيا يصدر الفتاوى في كل صغيرة وكبيرة.
والأخطر من ذلك، أنهم يجدون من يصفق لهم ويصدقهم؛ لأن هناك جيشًا آخر من أنصاف المتعلمين ينتظر أي معلومة سطحية ليتبناها وينشرها وكأنها وحي من السماء.
الإشكالية الأخطر إن خطورة أنصاف المتعلمين تكمن في أنهم ليسوا جهلاء تمامًا.
بل أن هؤلاء الأشخاص يمتلكون قدرًا بسيطًا من المعلومات يمنحهم شعورًا زائفًا بالثقة بالنفس.
ويجعلهم أكثر جرأة في نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة، إن الجاهل قد يضر نفسه، أما “نصف المتعلم” فيضر نفسه ويضر غيره.
إن “نصف المتعلم” يضر المجتمع كله، فهو أشبه بسائق يمتلك رخصة قيادة، ولكنه لم يتعلم أبدًا قواعد المرور، فما بالك لو قاد شاحنة محملة بالمتفجرات؟!.
إقرأ أيضاً للكاتب : عن الرعب والمرح .. زمان والآن !
أنصاف المتعلمين … قنبلة موقوتة
ولذلك فإننا نستطيع ان نقول إن الجهل نعمة في بعض الأحيان؛ فالجاهل لا يدعى العلم والمعرفة. أما “نصف المتعلم”، فهو قنبلة موقوتة.
هذه القنبلة تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر وتصيب من حولها بوباء الجهل المقنع.
فهل لنا أن نجد لقاحًا ضد هذه الآفة العصرية؟ !
أم أننا سنستسلم لمصيرنا المحتوم تحت رحمة فئة أنصاف المتعلمين التي تظن أنها تضيء لنا الدرب، وهي في الحقيقة تقودنا إلى الهاوية.