“حد الذوق ” … استدعى تفكيري في هذا المبدأ المهم موقف مررت به مع زميل عزيز.
فمنذ عدة أيام كنت في ضيافة هذا الزميل بمكتبه، وما أن إنتهينا من السلامات وهممنا بالجلوس، قام باستدعاء مسؤول البوفيه.
وبادرني عامل البوفيه بإبتسامة لطيفة قائلاً “تشرب إيه حضرتك؟” .
ولما كنت قد تجرعت عدداً مهولاً من فناجين القهوة في هذا الصباح فان “الينسون” كان هو الخيار التالي مباشرة.
ما هي إلا دقائق معدودة إلا وقد عاد الرجل حاملاً كوباً كبيراً من الينسون.
إقرا أيضاً للكاتب : محمد مظهر الذي لا يعرفه أحد
لماذا انتفض صديقي ؟
وحين هم بوضعه على المنضدة الصغيرة التي تتوسطنا فوجئت بمضيفي ينتفض طالباً من الرجل رفع الكوب والعودة بآخر ممتلئ إلى الحد المعقول.
لم يكتف بهذا الأمر بل إنطلق في محاضرة كبير موجهة إلى الرجل متحدثاً فيها عما أسماه “حد الذوق”.
وأشار صديقي إلى أن لكل شيء حد، وأن الزيادة عن الحد كالنقصان فيه.
ويعنى بذلك أن كوبا ممتلئا أكثر من اللازم يشبه تماما كوباً ناقصاً.
ويبدو أن استجابة الرجل شجعته على الإستطراد في الأمر؛ فبدأ يأخذ أمثلة لمشروبات ومأكولات أخرى.
ثم إنطلق منها إلى الحديث عن الملابس والإبتسامات والهزل، وباقي أصناف المشاعر والتصرفات وصولاً إلى المثال الشهير الخاص بالدواء.
وأن القليل من الدواء لن يشفى المريض، كما أن الكثير منه قد يسكنه القبر في لحظات.
والحقيقة أن هذا الموقف البسيط أطلق العنان لأفكاري لتدور حول مبدأ “حد الذوق”.
إقرأ أيضا للكاتب : عن الرعب والمرح .. زمان والآن !
“حد الذوق” يقودني إلى أفكار أخرى
حيث تذكرت كيف أن الكرم الزائد من الممكن أن يوصف البلاهة، و أن المزاح الزائد قد يوصم صاحبه بالبلاهة…الخ.
تذكرت أيضاً كتاب “لا تكن لطيفاً أكثر من اللازم ” من تأليف ديوك روبنسون، وتذكرت مقولة أن “خير الأمور الوسط”.
تذكرت كذلك الآية 29 من سورة الإسراء “وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا “.
وأخذني أيضاً مبدأ “حد الذوق ” الفرق بين الفضل والعدل في المعاملات والتصرفات.
وأن الفضل وإن كان محموداً إلا أن العدل يكون أكثر فاعلية في أحيان كثيرة.
استمرت الأفكار تتداعى إلى ذهني لم يوقظني من خيوطها إلا صوت صديقي يدعونى لشرب الينسون.
وهنا أمسكت بالكوب وتذوقته بطرف لساني، فوجدته قد تحول إلى البرودة الشديدة.
وهنا أدركت إننى قد أفرطت في التفكير، وأن لهذا الأمر حد أيضاً لايجب أن نتخطاه!.