بقلم مهندس زياد عبد التواب الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء
طفت على السطح مؤخراً مصطلحات جديدة مثل مصطلح “عميق”، والاستخدام هنا ليس للتعبيرعن عمق بئر أوبحر ولكن للدلالة على شخص ما، فعندما يطلق على أحدهم أنه شخص”عميق” أوأنه يقول جملاً”عميقة” أويقوم بكتابة منشورات “عميقة” على شبكات التواصل الاجتماعي، فإن هذا يعنى ببساطة أنه يستخدم عبارات فلسفية معقدة لشرح موضوع هام أولإيضاح وجهة نظره في أمرما، هذا هوالمعنى هوالأكثرصحة وهو الأصل المقبول لاستخدام تلك الكلمة.
لكن الأمرتخطى هذا إلى أن شمل الصياغة والأسلوب دون المحتوى، أوالموضوع؛ فقد يطالعنا أحدهم بكلمات معقدة، ليشوش بها على سطحية معرفته بالموضوع الأصلي أوللتشويش على تفاهة الموضوع أصلاً، ومن الطريف إن البعض أصبح يبحث على محركات البحث، عن من هو الشخص العميق، وما معنى الشخص العميق، وصفات الشخص العميق، وكيف يكون الشخص العميق، والشخص العميق في علم النفس!، وكأنه يجري دراسة “متعمقة ” في العمق!.
قد يهمك أيضا : الهروب الكبير…طريق الخلاص من سطوة شبكات التواصل الاجتماعى! (azwaaq.com)
الأمر تعدى العمق في ما هومكتوب إلى العمق فيما هومسموع أومرئي، فكثيراً ما نتعرض في مشاهدتنا للفضائيات بالعديد من الأشخاص من عينة “العميقالمذكور، حيث يتسم الصوت بالقوة متوسطاً بين الارتفاع الجنوني والإنخفاض المميت.
لن تجد عميقاً يضحك أويتحدث ببساطة أويلقي بفكاهة أوسخرية لتوضيح فكرته، أكثرهؤلاء بشاشة قد يبتسم مرة أومرتين في اللقاء كله على أكثر تقديرمهما حاول المضيف أن ينزل به إلى أرض الواقع .. واقع الموضوع وواقع أن يكون طبيعياً، ويتنازل عن عمقه وغروره!.
للأسف الشديد هذا العمق المصطنع يخيل على الكثيرين، رأيت وسمعت هذا كثيراً منذ بدأت أعي ما حولي، ومن حولي، اختبرت هذا عندما يكون الموضوع محل النقاش هو أحد مواضيع تخصصي أو دراستي، هنا اكتشف المسافة الكبيرة بين الصواب، وهذا العمق المصطنع، ولكن للأسف اأضا اكتشفت كيف أن هذا الأسلوب ناجح جداً في جذب الانتباه.
قد يهمك أيضا : سيدي الذوق ! (azwaaq.com)
الكارثة تكمن هذه الأيام في هذا الكم المهول من البرامج الرقمية والمعروفة بالبودكاست Podcast ومقاطع الفيديوالتي يخرج فيها أشخاص لانعرف من هم، ولاهم يعرفون ماذا يقولون!، فيتحدثون بأسلوب جذاب وبراق ويبثون السموم والأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة؛ وذلك نتيجة غياب أوضعف الرقابة الرقمية على مثل تلك الأنماط من الإعلام.
عودة مرة أخرى إلى الزمن الجميل من حيث العمق والقيمة؛ فقمت بمراجعة عدد من الكتابات القديمة واللقاءات التليفزيونية لكبارالكتاب والمفكرين، فوجدت أن بعضهم يصطنع العمق، ولكن للأمانة فإن هذه الفئة كانت قليلة فعلاً.
أما الغالبية فهم يتسمون بعمق حقيقي، ربما بسبب الأجواء العامة خلال تلك الفترة، هذا يمكن ملاحظته في مكاتبات الناس إلى بعضهم البعض خلال تلك الفترات، وأيضا يمكن ملاحظته فى أسلوب الكتابة الصحفية، فالجريدة اليومية آنذاك كانت تتسم بأسلوب أدبى شديد البلاغة والعمق في المقالات والتحقيقات والأخبار، ومنها بالطبع أخبارالحوادث مهما كان الحادث تافهاً.
قد يهمك أيضا : بمناسبة مسلسل “عمر أفندي”: عن “عمى الدبب” و”مشش الركب” و”البو” ! (azwaaq.com)
عدت إلى العصر الحالي، ففوجئت أن كثيرين منهم لايمكن أن يتكلموا ببساطة، فإن سألت أحدهم هل نحن نهاراً أم ليلاً، فلن تأتيك إجابة من كلمة واحدة أبداً، بل ستأتيك جمل بلاغية معقدة تحتوي على الإجابة مدمجة وغارقة وسط الألفاظ والاستعارات والمحسنات البديعية، قديماً قالوا البساطة هى قمة التعقيد” وأضيف إلى هذا فأقول إن سرالعمق فقط أن تكون بسيطاً وصادقاً.