بقلم : أ.د. عمرو عبد العزيز منير أستاذ الفولكلور والتاريخ الوسيط
ما يحدث من عنف متبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أرض السلام في ظل غياب لأصوات بذل السلام للعالم والدعوة للحياة، السلام، المحبة والوئام بين أبناء آدم وحواء، يستدعي بالضرورة الصورة الذهنية للحروب الصليبية التي تُشاهد اليوم من منظور معادٍ للاحتلال ، وينظر إلى الرد العربي على الغزو الصليبي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، على أنه مخطط يصلح دليلًا للنضال العربي / الفلسطيني الحديث من أجل الاستقلال، والثأر للذات العربية المأزومة، هكذا كبرت أسطورة صلاح الدين وبقيت قوية حتى اليوم، حتى ولو لم يكن هناك الكثير من المصدقين … لكن صوت العامة كان أعلى وحسم الذاكرة الشعبية … لصالح هذه الأسطرة المقصودة لصورة صلاح الدين ..
فهل حقًا شخصية صلاح الدين هى راية الـمُـخلص المؤثرة تقوم بوظيفتها لتكون بلسما للجراح، وشعاعًا يبعث الأمل فيمن خاب رجاؤهم، وفي المحرومين من حقوقهم في العالم العربي أو صوت النفير الكاذب ، أم عذر للتراخي الذي ينزل بالفرد ” إلى مستوى مشاهد متسكع في انتظار صلاح دين آخر، أو أوامر تهبط عليه من السماء؟!”.
إن الجراح عميقة ، ولن ينسى العرب آلام الحروب الصليبية طالما ظلت أراضيهم عُرضة للتدخل الغربي واتساع الجرح العربي الممتد من القدس إلى بغداد ، والقائمة تنتظر المزيد ، ولكن يبقى واجب المؤرخ أن يؤكد أن صلاح الدين كان ابن عصره ، وتأثر بأحداثه ، كما أثر فيها إلى حد ما . كانت الحروب الصليبية ظاهرة خاصة، في وقت خاص من التاريخ، وتطلبت ردًا خاصًا من جانب العرب. وعلى أية حال، إن المشاعر الخاصة التي تسبب فيها الصراع العربي الإسرائيلي تنفخ في نيران أسطورة صلاح الدين ، وليس من قبيل المصادفة أن القرون التي كانت فيها القدس بأيدي العرب هى القرون التي لقى فيها صلاح الدين إهمالا بالغًا؛ لأحداث الماضي في الشرق الأوسط صلة قوية بالحاضر. ونتساءل ؟.. لمــاذا عجز صلاح الدين الأيوبي عن الحرب في الشتاء؟
يعد قيام مدرسة ” الأنال” ANNALES في فرنسا أواخر القرن العشرين ، محطة مفصلية في تطور الكتــابة التاريخية ، حين قام رواد هذه المدرسة أمثال ” لوسيان فيفر” ” Lucien febvre” ومارك بلوخ MARC BLOCH وفرنان بروديل Fernand Braudel بعميلة تجديد واسعة في تقنيات ومفاهيم الـتــاريخ أخرجته من حدوده التقليدية ، فانفتح على باقي العلوم الإنسانية ( اقتصاد ، جغرافيا ، علم اجتماع ، ديمغرافيا ..) ، وأضحت الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في صلب اهتمامات المؤرخين .. معتبرة أن التاريخ الإخباري الحدثي هامشي ، وأن العوامل الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية هى التي تحدد في النهــــاية وجهة التـــاريخ وتطور مساراته.
يشير فادي إلياس في سياق حديثه عن أبعاد العلاقة بين المناخ والأسعار والأمراض في بلاد الشام في عهد المماليك إلى إرهاصات الاهتمام بتاريخ الطبيعة ويحدد البداية من الستينيات بشكل أساسي ، على يد المؤرخ الفرنسي ” إيمانويل لو روا لادوري” الذي عكف على دراسة تاريخ أثر الطبيعة وعواملها في أوروبا وفرنسا خاصة ، منذ ألف عام ، ثم شهد هذا النوع من الأبحاث ثورة حقيقية مع انضمام عدد كبير من الباحثين في علم الطبيعة والمناخ والأرصاد الجوية… إلى هذا الميدان من العمل.
تسعى المنطقة الواقعة بين التاريخ والطبيعة وأبعاد العلاقة بينهما إلى محاولة إعادة بناء جغرافية الماضي ، ودراسة تغييرات الطبيعة والظواهر الطبيعية التي عرفتها الكرة الأرضية أو بقعة معينة منها، ولعل أكثر ما يهم المؤرخين في هذا المجـــال البكر معرفة مدى الدور الذي يمكن أن تكــون العوامل الطبيعية لعبته في حدوث بعض التحولات الاقتصادية والاجتماعية أو العسكرية أيضًا…
ويكفي هنا أن نشير إلى أن الجيوش التي قادها نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين الأيوبي ضد الفرنج كانت تعجز عن العمل في بلاد الشام في فصل الشتاء بحيث كان كل قائد يعود لبلاده في هذا الفصل. وعلى الرغم من أن صلاح الدين حاول أخذ “مدينة صور” في شهر رمضان 583هـ (ديسمبر 1187م)، وضرب حصاره على المدينة بأسوارها التي ترتفع ستة أمتار، إذ كانت فلول الهاربين من عكا وبيت المقدس وغيرهما قد انحشروا في داخل صور التي تولَّي تنظيم الأمور بها “كونراد مونتفورت” (الذي تُسميه المصادر التاريخية العربية “المركيس”). الذي شن هجومًا بحريًا جسورًا على الأسطول الإسلامي وتسبب في دماء كثيرة، وفقد صلاح الدين السيطرة على البحر، وفي الوقت نفسه أخذ القلق يتزايد بين أمرائه؛ وكان العام على وشك الانتهاء، وكانوا بحاجة للرجوع إلى بلادهم، ورأى صلاح الدين جيشه يتفرق أمام ناظريه ولم يكن أمامه بُد من صرف الجيش والراحة فترة الشتاء. كان هو نفسه مرهقًا جسديًا وذهنيًا، حتى صار ظلاَّ للرجل المنتصر في حطين قبل أشهر قليلة.
ويحاول كثير من المؤرخين المعاصرين أن يُوجِّهوا اللوم إلى صلاح الدين؛ لأنه ترك صور لتكون معقلًا لجمع الصليبيين المحليين، وقاعدة تنطلق منها العمليات الحربية التي قام بها صليبيو الحملة الصليبية الثالثة فيما بعد. والحقيقة أن هذا الرأي الذي يتبناه “رنسيمان” وعدد من المؤرخين يغفل الطبيعة الطبوغرافية لبلاد الشام في الشتاء من ناحية، وطبيعة الجيوش الإسلامية شبه الإقطاعية، التي كانت تتمتع بقدر كبير من حرية الحركة من ناحية أخرى. ولم يكن في يد صلاح الدين وسيلة فعَّالة للسيطرة الحقيقية على الأمراء الذين قادوا جيوشهم للمشاركة في هذه المعارك.
تزداد أهمية تاريخ المناخ عندما ندرك أنه ترتب عليه الكثير من المنعطفات التاريخية الكبرى، فليس من قبيل المصادفة أن تتعرض المنطقة لاجتياح المغول في أواخر القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر، ولم يكن من قبيل المصادفة أيضًا أن تتكرر مثل هذه الحملات في أواخر القرن الرابع عشر ومطلع القرن الخامس عشر.
إن مراقبة متأنية فيما قدمه الباحث فادي إلياس من تحليلات إحصائية لمناخ المنطقة في العصر الوسيط تقف بنا على معطيات مناخية تظهر أن حملات التتار ثم العثمانيين قد أعقبت دومًا خللا مناخيًا خطيرًا تعرضت له ليس بلاد الشام فحسب بل مختلف أنحاء آسيــا الغربية ودول حوض المتوسط على ما يبدو، ويتمثل هذا الخلل بتعاقب مثير لعدة سنوات من الجفاف والشح والقحط لم تشهد المنطقة له مثيلا، مما زعزع بشكل فاضح النظم الهيدرولوجية والمناخية.
ويدعو الحديث عن تسرب 18 ألف بيت من التتار إلى بلاد الشـام في أواخر القرن الثالث عشر إلى التأمل، على الرغم من أن الروايات تعيد أسباب هذا النزوح إلى صراعات داخلية إلا أن المعطيات المناخية المتوافرة حول هذه الفترة تدفعنا إلى النظر إلى ما هو أبعد من هذا التفسير التقليدي .
ويحق لنا بعدما أميط اللثام عن جانب من مناخ الفترة الممتدة من أواخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر حيث عرفت المنطقة أيضًا مناخًا شديد التطرف ببرودته وصقيعه أن نتساءل عن مدى العلاقة بين هذا التبدل المناخي باتجاه البرودة والانفلات العثماني باتجاه مناطق أكثر دفئًا؟
ولا نغالي إذ لاحظنا ثمة صدفة غريبة بين تأزم مناخي بلغ حدود المعاناة من العطش في أواخر القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر ، وبين الحملات العسكرية المنظمة على جبل لبنان ، إذ لا يمكن أن تكون هذه الحملات في عمق أعماقها تعبيرًا فظًا عن ضرورة سيكولوجية تقضي باغتصاب بيئة طبيعية غناء من قِبَل بيئة جافة نقيضة تقع بمحاذاتها، وفي كــل مرة يحصل فيها تأزم مناخي خطير وعام يترجم ذلك بتحركات عسكرية غير اعتيادية على الأرض.
أخذ العامل الأيكولوجي بعين الاعتبار في دراسة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتحركات السكانية والعسكرية بات أمرًا لا مفر منه ، وعلى ضوئه ستتبدل بلا شك العديد من المفاهيم والتفسيرات التاريخية وبشكل جذري ربما. ويمكن اعتباره عاملا جديدًا يُضاف إلى جملة عوامل أخرى مؤثرة في المجتمع عامل كغيره من العوامل له نتائجه وانعكاساته وإن لم يكن أهمها على الإطلاق فهو بالتأكيد ليس أضعفها.