بدأت الدولة المصرية في السنوات الأخيرة خطة طموحة لتطوير التعليم، وقد كان من المحاور الأكثر أهمية في هذا الملف ربط التعليم بسوق العمل، وفي سبيل تحقيق ذلك اتخذت إجراءات عديدة تشمل استحداث مواد وبرامج ومقررات بل واستحداث مسارات تعليمية جديدة ومدارس ذات مواصفات خاصة وإنشاء جامعات متخصصة وكليات تخدم العديد من التخصصات الجديدة والبينية.
غير أنه بالتزامن مع هذه التطورات برزت على الساحة بعض الأصوات المتعارضة فبعضها يرى أن العلم يجب أن يقدر لذاته بصرف النظر عن ارتباطه بروافد معينة في سوق العمل أم لا، والبعض الآخر يرى أن التعليم إذا لم يكن له ارتباط بسوق العمل فإنه يفقد قدرا كبيرا من أهميته وجدواه .
والحقيقة أن هذا الصراع بين التوجهين السابقين صراع ليس بجديد، و يذكرني هذا الصراع بقول الشاعر الكبير أحمد شوقي: وَاِطلُبوا العِلمَ لِذاتِ العِلمِ لا لِشَهاداتٍ وَآرابٍ أُخَر، وقوله في قصيدة أخرى: بالعِلمِ والمالِ يَبني النّاسُ مُلْكَهُمُ لم يُبنَ مُلْكٌ على جهلٍ وإقلالِ.
قد يهمك أيضا : كعب أخيل..نقطة ضعفنا (azwaaq.com)
إن الحقيقة التي لا جدال فيها بين التربويين أن تحديد الهدف من المقرر الدراسي ووضوحه وارتباطه بالواقع الذي يعيشه الطالب يسهم في زيادة دافعيته وبقاء أثر التعلم، وأن غموض الأهداف وعدم ارتباطها بالواقع يجعل من عملية التعلم مهمة شاقة، وسرعان ما يزول أثر التعلم كنتيجة حتمية لعدم ارتباط ما يتعلمه الطالب بواقعه وحياته وبالتالي تنعدم فرص الممارسة والتي تعد بدورها أحد أركان التعلم الأساسية.
وعند الحديث عن لماذا نتعلم؟ يستوقفني أمر مهم آخر وهو أن المطالع لكتبنا التراثية يجد أنها لا تخلو من بيان فائدة العلم وثمرته، وهي إما أن تكون فائدة دنيوية بحتة أو أن تكون فائدة أخروية في المقام الأول، ولكنها ضمنيا تحتوي على فوائد دنيوية، وأيا كان الأمر فإن لكل علم فائدة وثمرة وهكذا يجب أن يكون كل علم.
ليس في العلم خير إذا لم يعالج مشكلة أو يسهم في تطور الفرد أو المجتمع، وإذا لم تنعكس آثاره إيجابا على حياة الناس، مع ملاحظة أن الأثر الإيجابي لا يشترط أن يكون ماديا، بل يمكن أن يكون فكريا وعقليا ووجدانياً. وربط التعليم بسوق العمل ليس بدعة ابتدعها المسؤولون عن تطوير النظام التعليمي، بل هو ضرورة واستقراء لتجارب الدول المتقدمة التي أحسنت توظيف التعليم لخدمة أهدافها الاستراتيجية؛ فاستطاعت أن تتبوأ مكانتها اللائقة بين الأمم. وفي المقابل فإن الدعوة للتعلم لأجل العلم فقط مجردا عن أي هدف آخر هي دعوة غريبة لا تقوم على أساس منطقي وبعيدة كل البعد عن قضايا التنمية وبناء المجتمعات.
ولا يفهم من هذا الكلام أن هذه دعوة للاهتمام بالعلوم التقنية والتي تخدم الصناعة بشكل مباشر وإهمال العلوم النظرية التي ليس لها ارتباط مباشر بسوق العمل، بل إن الغرض هو أن يضع المطورون نصب أعينهم كيفية توظيف هذه العلوم لخدمة أهداف التنمية وتحقيق التطور لكل من الفرد والمجتمع ولا يخلو علم من العلوم التي يتم تدريسها في جامعاتنا من فائدة حياتية وينبغي على مصممي المناهج أن يضعوا أيديهم على تلك العلاقة وهذه الرابطة التي تربط العلم في تخصص معين بقضايا الفرد والمجتمع، فإن أحسنوا في ذلك فإنهم بذلك يجعلون من عملية التعلم أمرا ممتعا وشيقا ومثيرا للطلاب ،وأيضا مستمرا وذا مردود إيجابي .
كما أن إلقاء الضوء على فرص العمل غير التقليدية المتاحة للتخصصات النظرية وتبصير الطلاب بالطرق الابتكارية لتوظيف معارفهم لخدمة أهدافهم الشخصية وأهداف المجتمع يحفز الطلاب على التعلم ويجعلهم أكثر ثقة في أنفسهم وأكثر شعورا بالرضا والارتياح وأكثر استفادة وإفادة مما تعلموه ويجعل من النظام التعليمي نظاما حيا يعج بالحماس والدافعية، فضلاً عن الفوائد الأخرى التي تتضمن تقدمه في التصنيفات العالمية للتعليم وحصوله على مراكز متقدمة في مؤشرات الجودة والابتكار.