بقلم :الدكتورعاصم حجازي أستاذ علم النفس التربوي المساعد بجامعة القاهرة
كثيراً ما نتذكرأيام الطفولة، ونتذكرما عشناه فيها من لحظات نشعر الآن أنها كانت سعيدة، وغالبا يصاحب اجترار الذكريات هذا وصفها بأنها كانت أفضل أيام، وأن الناس قديماً كانوا أفضل من الآن، وأن الحياة كانت في الماضي أسهل، والعلاقات الاجتماعية كانت أقوى والحب والود كانا منتشرين بين الناس “أيام زمان”، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تدل في مجملها على أن الماضي كان الناس فيه أفضل حالاً من الحاضر.
ولايتوقف الأمرعند هذا الحد، إنما يصاحب هذا الاعتقاد حنين إلى الماضي، وتمني أن يعود الزمان إلى الوراء مرة أخرى؛ لاستعادة هذه الأيام بذكرياتها؛ والبقاء فيها إلى الأبد.
والحقيقة أن هذا الشعورهو شعورعاطفي بحت، ويفتقر إلى تنشيط الوعي والذاكرة، بل إن هذا الشعور أيضاً بعيد عن المعالجة الموضوعية والمنطقية.
ودعني أوضح لك عزيزي القارىء بعض الأمور، لقد ارتكبت في هذا الماضي الجميل الكثير من المجازر والحروب، وظلم في هذا الماضي العظيم الكثير والكثير، وقطعت فيه الكثير من الصلات والأرحام، ودمرت فيه أسروعائلات وسرق فيه ونهب.
وإذا قدرلعجلة الزمن أن تعود إلى الوراء، أو إلى”الزمن الجميل”لوجدت من يعيشون في هذا الزمن الذي تتمنى أنت أن تعيش فيه يتمنون العيش في الزمن الذي يسبقه، والذي كانوا فيه أطفالاً، ويفضلونه أيضاً على الزمن الذي تتمناه أنت!.
قد يهمك أيضاً: الإفراط في المجاملات يصنع المشكلات (azwaaq.com)
إذن المشكلة ليست في الزمن؛ فالخيروالشرموجودان منذ بدء الخلق، وفي كل زمان ومكان، ولكن المشكلة الحقيقية والسبب الرئيسي هو الوعي.
نعم إن درجة وعي الإنسان بما يدورحوله هي التي تقوده إلى تفسيرات صحيحة أحياناً، ومضللة أحياناً أخرى بحسب ما يمتلكه من درجات الوعي؛ ففي الطفولة يكون الوعي والإدراك لما وراء الأحداث أقل، وبالتالي لا يستطيع الطفل أن يكتشف الخبث والمكرفي أحاديث من يتعامل معهم، ولا يستطيع أن يفهم ما وراء الكلام فينخدع بكل ما يسمع من طيب الكلام ولينه، ويظنه على حقيقته كلاماً طيباً لا هدف آخر له.
وبذلك تتشكل لديه بعض الذكريات العاطفية لتلك الأحداث، وهذا الذي نتحدث عنه يسمى في علم النفس بتطور “نظرية العقل”، ومع تطور”نظرية العقل”، وتطوروعي الفرد، وإدراكه، لما وراء الأحداث والكلام، يبدأ المرء في تلقي الصدمات؛ فيكتشف الزيف والخداع والمكروالخبث الذين يحيطون به في كل مكان، ومن كل اتجاه.
وكحيلة دفاعية للتخلص من القلق الناتج عن هذا الشعور، يبدأ الفرد في الهروب إلى ماضيه الجميل، الذي كان يتمتع فيه بقدرأكبر من السعادة، ولعله لم يلاحظ أن معظم الأفراد الذين شكلوا نظرته السلبية عن الحاضر، كانوا أبطالاً لحكايات السعادة والفرح والتعاون والإخلاص والإيثارالتي عاشها في طفولته الأشخاص هم بأعينهم، وهم بالمناسبة لم يتغيروا.
قد يهمك أيضاً: هل يهدد البودكاست بقاء الإذاعة الصوتية؟ (azwaaq.com)
ولكن ما حدث هو أن وعي الفرد تطور؛ فاكتشف حقيقتهم، وتغير بالتالي حكمه عليهم، وتصنيفه لهم، الماضي كان أفضل، وسيظل الأفضل لكل جيل؛ لأننا نعيشه بكل مشاعرنا وببعض عقولنا، والحاضرسيظل سيئاً في رواية الكثيرين؛ لأننا نعيشه بكل عقولنا، وبقدرأقل من مشاعرنا، وذلك بحكم أننا أصبحنا أكثرنضجاً، ونمتلك الكثيرمن الخبرة والتجارب .