بقلم : نرمين عليم باحثة تراثية
يعد التراث الشعبي جـزءاً أصيلاً من ثقافة المجتمع، يحمل سماته وخصائصه، ويميز مجتمع عن آخر، ويلعب التراث دورا مهما في تشكيل المجتمع وتحديد اتجاهاته والأسلوب المتبع في التعبير عن ذاته، خاصة إذا ما جاء ذلك التعبير في صياغة فنية؛ فالفنون بكل مجالاتها ذات صبغة خاصة وفريدة ترتبط أرتباطا وثيقا بالمجتمع الذي ولدت من رحمه.
لاشك أن فنون الشعب إحدى أهم الوسائل التي يمكن أن يستخدمها الشعب للتعبير عن أحلامه وهمومه ووجدانه، وبرزت فنون الموسيقى والغناء الشعبي كإحدى أقوى أدوات الشعوب في التعبير عن فلسفة الأمة ووجدانها ، ونبضها الحقيقي، وهـي التاريخ الشفاهي للشعوب أو الجماعات، ولا تؤول ملكيتها لإنسان بعينه، إنما هي ملك للمجتمع، تميز هويته ووجوده، وتميز ثقافته، وهي محصلة الحياة الفطرية البسيطة التي عاشها الإنسان في مجتمع له ضوابط ومعايير اجتماعية .
وبمناسبة مرور مائة عام على ذكرى وفاة سيد درويش تطل علينا سيرته الفنية كواحد من أبرز وأهم الموسيقيين والملحنين في تاريخ مصر والعالم العربي؛ حيث تاريخه المليء بالإنجازات والمساهمات الفنية؛ مما يجعله شخصيةً مؤثرة وملهمة في عالم الفن. يتمتع درويش بمسيرة فنية طويلة قدّم خلالها العديد من الأعمال الاستثنائية التي تركت بصمة في قلوب الملايين.
ولد سيد درويش في الثامن والعشرين من مارس عام 1892 في مدينة الأسكندرية، لأب فقير يعمل في النجارة، توفي عندما بلغ درويش السابعة من عمره مما أضطره إلى هجر مدرسته، ورأت والدته أن تلحقه بكتاب الشيخ حسن حلاوة ليتعلم قراءة وتجويد القرآن، وبعد أن استوفى كل ما يعرفه الشيخ انتقل سيد درويش إلى مدرسة سامي أفندي، ولم يطل بقاؤه فيها فتركها ليعمل مقرئ ثم مؤذن، وظل ينتقل من مهنة لأخرى حتى انتهى به المطاف نحو الموسيقى والغناء.
وأظهر سيد درويش منذ نعومة أظفاره، اهتماماً كبيرا ًبالموسيقى والغناء، وشاءت الظروف أن يستمع إليه المسرحي أمين عطا الله، ويضمه لفرقته التي تسافر لتجوب بلاد الشام، وهناك يلتقى سيد درويش بالموسيقي العراقي عثمان الموصلي، الذي يتعهد درويش ويلقنه فن الموشحات والضروب قديمها وحديثها وينهل معه درويش من التراث الموسيقي؛ مما جعله يصمم على الاستمرار في طريق الموسيقى والغناء برغم أن الأمر كان لا يرق لأسرته، وكان في صراع دائم معهم بسبب ميله للفن والغناء.
وفي عام 1914 ألتقي سيد درويش بالشيخ يونس القاضي وأصطحبه معه إلى القاهرة، وهناك غنى درويش في عدد من الملاهي؛ إلا أنه لم يحقق النجاح الذي كان يصبو ويأمل إليه، فعاد أدراجه إلى الاسكندرية مرة أخرى، وكان أثناء تواجده بالقاهرة قد تعرف على بديع خيري الذي كان يهوى الموسيقى والغناء أيضًان فأعجب بموهبته وطلب من سيد درويش أن يعاود إلى القاهرة ليقدمه إلى نجيب الريحاني، وأسند الريحاني إلى سيد درويش تلحين بعض الفواصل الغنائية الاستعراضية لتقديمها بين فصول مسرحيات الريحاني، فنجح درويش نجاحًا مذهًلا؛ مما دفع الريحاني إلى أن أسند له تلحين مسرحيات كاملة.

نرمين عليم باحتة تراثية
وبدأ درويش مسيرته المهنية في عالم الموسيقى في سن مبكرة، ولقب بالعديد من الألقاب التي حملها جميعا عن جدارة واستحقاق فكان “أبو الطرب”، “فنان الشعب”، “صوت مصر” وهي ألقاب تكشف كيف كان سيد درويش فنانًا مصريا أصيلاً استطاع أن يلامس قلوب المصريين، وينبش في آلامهم ويشاركهم أحلامهم وهمومهم، واكتسبت درويش شهرة كبيرة كملحن ومغن موهوب.
وتميزت أعمال سيد درويش بتنوعها وقدرته على تجاوز الحدود الفنية؛ حيث استطاع أن يجمع بين الموسيقى التقليدية والحديثة، وأن يدمج بين الأصوات والآلات المختلفة بشكل فريد، وقدّم درويش العديد من الألحان الشهيرة والأغاني الرومانسية المؤثرة، كما قدم العديد من الأعمال الفنية المميزة والتي أثرت بشكل كبير في الثقافة المصرية، وكان يعزف على العود ببراعة، وكتب العديد من الأغاني التي تناولت قضايا الشعب وحكاياته.
وكانت حياة درويش متشابكة مع فترة الاستعمار التي مرت بها مصر؛ حيث كان الحضور الثقافي الاستعماري يمارس تأثيره على المجتمع المصري؛ لذا كانت الموسيقى وسيلة فعالة للتعبير عن الأفكار والمشاعر الوطنية والاحتجاج ضد الظلم الاستعماري، وفي هذا السياق، انبثقت روح الغناء الوطني المصري بفضل الألحان والكلمات القوية التي ألفها وغناها سيد درويش.
كان درويش يعبّر عن روح الوحدة والوطنية من خلال أعماله، وكانت البلاد تعاني من تداعيات التدخل الأجنبي في شتى المجالات، بما في ذلك المجال الفني؛ حيث كانت الأغاني التي كتبها وغناها درويش تعبر عن معاناة الشعب المصري تحت وطأة الاحتلال، وتعبّر عن الحنين إلى الحرية والاستقلال.
وكان سيد درويش يوظف الكلمات بمهارة فائقة ليعبر بها عن مشاعر المصريين وآلامهم، وجاءت كلماته تحمل رسائل سياسية واجتماعية قوية، وحركت أغانيه الشعور الوطني لدى الجمهور، وتوحدت صفوف الشعب في وجه الاستعمار.
قد يهمك أيضا : قماش الفركة النقادي .. شهرة عالمية (azwaaq.com)
ومارس الاستعمار ضغوطًا قويةٍ على سيد درويش وعلى الفنانين في مصر، فقد تم وضع حدود للموسيقى المصرية التقليدية، وتشديد القيود على حرية الفنانين في التعبير عن آرائهم، وتعرضت أعمالهم للرقابة التي تنتقد الاحتلال أو تطالب بالحرية والاستقلال؛ للحظر من قبل السلطات الاستعمارية، ومع ذلك استمر في إبداء وجهة نظره بشجاعة ولم يتراجع في وجه الضغوط التي تعرض لها.
لقد كتب وغنى عن الأمل والحب والحرية، وأصبح صوتا للشعب ومناضلا ضد الظلم والاستعمار، واستطاع تجاوز العراقيل التي وضعها الاحتلال في طريق فنه، من خلال إبداعاته الموسيقية التي استطاعت أن تخلق تأثيرًا قويًا في قلوب الناس وتعبر عن معاناتهم وآمالهم.
قد يهمك أيضا : القماش المصري يجتاح عالم الموضة والاستدامة (azwaaq.com)
باختصار، لقد كان سيد درويش عبقريًا في عالم الموسيقى والتلحين، وقدم إسهامات جليلة في تطوير المشهد الفني المصري والعربي، وتركت أعماله الفنية أثرًا عميقًا ولا تزال تلهم العديد من الفنانين والموسيقيين، وهو يذكرنا بقوة الفن في مقاومة الظلم والتمييز.
لقد استطاع سيد درويش أن يصنع إرثًا فنيا لا يُنسى، وسيظل إرثه الثقافي الهام يستحق الاحترام والتقدير، وسيظل سيد درويش رمزًا للفن الذي تصدر قلوب المصريين حتى اليوم.