لقاء الصدفة الذي حول أم كلثوم من مطربة أفراح إلى نجمة الغناء العربي … لو نظر الواحد منا إلى قصص الناس وحكاياتهم بل لونظر إلى نفسه لأدرك عظيم صنع الله في خلقه، ولعرف تماما كيف تتبدل حياة كل منا من حال إلى حال ..وكيف تكون هناك نقطة تحول فارقة يكتبها الخالق رب العباد دون أن يكون للإنسان دخل بها على الإطلاق.
بدلت الصدفة حياة الفتاة الصغيرة أم كلثوم إبراهيم البلتاجي من مجرد صبية يعرفها الناس في منطقة بعينها ..يطلبونها لأفراحهم، لتغني فيها بأجر زهيد إلى أشهر مطربة في تاريخ الغناء العربي، كان الشيخ إبراهيم البلتاجي ابن قرية طماي الزهايرة التابعة لمديرية المنصورة يعرف ما ينطوي عليه صوت ابنته فاطمة التي اشتهرت بأم كلثوم من إمكانات كبيرة، ومن تفرد وعظمة لكنه لم يكن يحلم لها بأكثر مما وصلت إليه ..الغناء في الأفراح نظيرأجرزهيد.
ربما لم تذهب أحلامه أبعد من أن يزيد أجرأم كلثوم قليلاً، وأن تصبح مطلوبة في أفراح أهالي مديرية المنصورة على نطاق أوسع ..ولم تتجاوزأحلام أم كلثوم شيئا أبعد مما وصلت إليه احلام أبيها في صباها الغض، وفي ذلك الوقت من خريف عام 1923 كان مطرب أم كلثوم المفضل هو الشيخ أبو العلا محمد ..كانت الفتاة الموهوبة قد سمعته بالصدفة عبر الفونوغراف في دوار عمدة قريتهم طماي الزهايرة، فانبهرت بصوته وغنائه وأدركت أنه استاذ كبير في دنيا الطرب واللحن والسلطنة. لكنها كانت تظن أنه رحل منذ سنوات، فكانت أم كلثوم تداوم على سماع الشيخ أبوالعلا محمد وهي تعتقد أنه ميت، وأن من سوء حظها في اعتقادها أنه مات قبل أن تدخل هي عالم الطرب والغناء.
وفي صباح يوم فارق في حياة أم كلثوم كانت قد أحيت فرحا في قرية قريبة من السنبلاوين ..انتهى الفرح وتقاضت وأبوها وأخوها خالد أجرهم البسيط ، وذهبوا إلى محطة السنبلاوين ليستقلوا القطار عائدين إلى طماي الزهايرة ..لا يعرفهم أحد ولا يبالي بهم أحد ..جلسوا على المحطة وقد أرهقهم السهر في انتظار القطار ..وفجأة سمعوا جلبة وضجيجا، ورأوا جمعا من الناس يحيط بشخص على رصيف المحطة، وذهب الشيخ إبراهيم ليستطلع الأمر، ثم عاد إلى أم كلثوم ليخبرها أن هذا الضجيج وهذا الحشد من الناس يلتف حول الشيخ أبو العلا محمد.
كان أبو العلا محمد قد أحيا فرحا لابنة أحد وجهاء السنبلاوين، وتصادف أنه ذهب إلى المحطة ليستقل القطار العائد إلى القاهرة، في نفس الوقت الذي تجلس فيه أم كلثوم لتستقل القطار إلى طماى الزهايرة ..عاد والد أم كلثوم ليخبرها بوجود الشيخ أبو العلا محمد على المحطة ..لم تصدق أم كلثوم في البداية قالت لأبيها “هو الشيخ أبو العلا لسة عايش أنا كنت فاكرة أنه ميت من زمان ؟” وعلى الفورانطلقت أم كلثوم إلى المكان الذي كان يقف فيه الشيخ أبو العلا، اخترقت الصفوف ووجدت نفسها أمام حلمها الكبير.
قدمت أم كلثوم نفسها ل “أبو العلا محمد “قالت له بالحرف :”أنا أم كلثوم ابراهيم البلتاجي مغنية من طماي الزهايرة ومش هاسيبك إلا لما تسمعني ..ومش هاسيبك إلا لما تتغدى عندنا النهاردة في طماي الزهايرة”، ولم يجد الشيخ أبو العلا بدأ من الرضوخ للفتاة المتحمسة، وأمرباقي أعضاء فرقته بالعودة إلى القاهرة وذهب هو مع أم كلثوم وأبيها وشقيقها إلى بيتهم بطماي الزهايرة.
وهناك غنت أم كلثوم لأستاذها وتجلت وتسلطنت ووجد أبوالعلا نفسه أمام موهبة باذخة، ونظرإلى والد أم كلثوم بغضب وقال:”إ زاي البنت دي تندفن هنا كل المدة دي بعد كام يوم تجيبها وتيجي عندي في القاهرة، وأنا هاعمل اللازم “، ولم تكذب أم كلثوم ووالدها خبرا، وبعد أيام قليلة جاءا إلى القاهرة، وكان الشيخ أبو العلا صادقا ونبيلا مع أم كلثوم؛ لأنه أمن بموهبتها العظيمة حجزأبو العلا لثومة ووالدها غرفة بأحد اللوكاندات بشارع فؤاد، ثم تولى تدريبها بشكل احترافي متقدم، وعلمها كيف تغني بإحساس، وأعطاها تدريبات لتقوية الصوت ومرنها على أساليب غنائية مختلفة.
وقد ذكرت أم كلثوم بنفسها لمحمود عوض في كتابه “أم كلثوم آلتي لايعرفها أحد” أنها قبل أن تلتقي الشيخ أبو العلا كانت تغني بلا إحساس كأنها تلميذ يردد جدول الضرب، فعلمها أبو العلا كيف تغني .. ثم استطاع أن يوفر لها فرصة ذهبية، لكي تغني كل ثلاثاء على مسرح الماجستيك، وأقنعها بأن تتجه إلى الغناء العاطفي بعد أن كانت تغني الأناشيد الدينية فقط ..ثم وجهها مرة أخرى لكي تخلع العقال الذي كانت تحرص على ارتدائه في أغانيها وأطلق عليها لقب “صاحبة العصمة”.
ولحن أبو العلا محمد لأم كلثوم سبعة أغنيات وموشحات هي المعروفة لدينا، ويقال إن العد الحقيقي لما لحنه أبو العلا لثومة يصل إلى ثلاثين أغنية وموشحا لم يصلنا منها سوى سبعة فقط .
ويمكن أن نقول بلا تحفظ أن أبو العلا محمد كان أول “ميكرستار” أوصانع نجم” بمفهومها الحديث في تاريخ غنائنا العربي، بما فعله مع أم كلثوم.
عاشت أم كلثوم السنوات الأربع الأولى بعد مجيئها إلى القاهرة تلميذة مخلصة ل”أبو العلا محمد” تتعلم وتفهم وتقطع خطوات أولى كبيرة في مشوار نجوميتها، وفي عام 1927 رحل أبو العلا محمد بعد أن أكل كمية كبيرة من الحلاوة الطحينية التي كان يحبها حبا شديدا، وكان مريضا بالسكر ..فارتفعت معدلاته بشكل كبير في جسمه ليفارق الحياة.
ومشت أم كلثوم في جنازته حافية، لحزنها الشديد عليه، يقال إنها أحبت أبو العلا محمد حبا حقيقيا، وأنه كان الحب الأول في حياتها بعد أن نقلها نقلة هائلة، لكي تتربع على عرش الطرب ..وأنها رفضت بعد رحيله أن تتزوج ابنه جلال؛ فقد كانت تحبه هو لفضله الكبير عليها؛ وهكذا كان لقاء الصدفة بين أم كلثوم وأبوالعلا محمد على محطة قطار السنبلاوين هو نقطة التحول في حياة أم كلثوم ..وهو الذي أهدانا أهم مطربة في تاريخ الغناء العربي.