في زمن صار فيه الهاتف إمتداداً لليد، والشاشة بديلاً للنافذة والتواصل اختزالاً لنقرة أو رموز، لم يعد السؤال المطروح هو: “ما الذي أضافته التكنولوجيا إلى حياتنا؟”.
بل بات السؤال الأخطر: ما الذي أخذته منا؟ التكنولوجيا ليست خطراً في ذاتها، لكنها مثل كل قوة عظيمة تحتاج إلى وعي يضبط استخدامها، وعقل يعرف متى يقترب ومتى يبتعد.
فنحن لا نعيش فقط ثورة معلومات بل نمر بتحول عميق في علاقتنا بذواتنا، وبالآخرين حتى بات الإنسان يُقاس بظهوره الرقمي لا بحضوره الإنساني، وذلك ما أناقشه اليوم في أذواق .
إقرأ أيضاً للكاتب : قهوة سادة على رصيف الذكريات
نعيش داخل الهاتف !
نستيقظ اليوم على رنين الإشعارات، نمدّ يدنا نحو الهاتف قبل أن نمدّها نحو كوب الماء.
أصبحنا نعيش داخل الهاتف أكثر مما نعيش في الواقع، نلتقط الصور لنُرضي خوارزميات لا لنُوثق لحظات. نكتب الكلمات لنحصد إعجابات لا لنُعبّرعن أنفسنا. نضحك على الشاشة ونبكي خارج الكادر.
وهكذا بينما تتزايد سرعة الإنترنت، يتناقص شعورنا بالإتصال الحقيقي.
إننا في سباق لا نعرف من بدأه ولا إلى أين يتجه. نشارك يومياتنا ونبثّ تفاصيل حياتنا، بينما نختنق من الوحدة في قلوبنا، نبدو متصلين بالعالم لكننا منفصلون عن أقرب الناس إلينا.
تكنولوجيا التواصل الاجتماعي
تكنولوجيا التواصل الاجتماعي وهي واحدة من أعظم ابتكارات العصر، تحوّلت بفعل الإستخدام الخاطئ إلى معول يهدم روابطنا لا جسراً يربط بيننا.
فكم من صداقة إنهارت بسبب سوء فهم على “واتساب”، وكم من علاقة بُنيت على وهم “بروفايل” مصقول بالكذب؟.
إقرأ أيضاً للكاتب : موضوع عائلي 3 … متعة اللحظات البسيطة مع من نحب
عشوائية التكنولوجيا
لقد أصبحت الصورة أهم من الحقيقة، والإنطباع أهم من العمق، والرد السريع أهم من التفكير.
لسنا هنا في معرض الهجوم على التكنولوجيا بل في لحظة صراحة مع أنفسنا.
الإنسان لم يُخلق ليكون رقما أو حسابا بل روحا تبحث عن المعنى.
التكنولوجيا حين تُستخدم بعشوائية تُفرغ الأشياء من معناها وتُحوّل الحياة إلى سلسلة من التفاعلات الفارغة. نحزن فنتظاهر بالسعادة، ننهار فننشر نكتة، نتألم فنلتزم الصمت الرقمي. إنه زمن التجميل العام لا الصدق الشخصي.
إدمان الإنترنت
الأخطر أن كل هذا يحدث تدريجيا بهدوء دون أن ننتبه، نصبح مدمنين دون إعلان ونُصاب بالقلق إذا انقطع الاتصال أو نفدت البطارية.
حتى لحظات الراحة أصبحت مشروطة بوجود الهاتف، وكأننا لا نستطيع أن نرتاح من دون شاشة.
لقد غيّرت التكنولوجيا طريقة تفكيرنا، وأثرت على ذاكرتنا، وخلقت أنماطا جديدة من العلاقات الهشة.
صار من الممكن أن تعرف مئات الأشخاص دون أن يكون لك صديق حقيقي واحد، لكن الأمل لا يزال قائما. ما زال بإمكاننا استعادة التوازن إذا أردنا. الأمر لا يتطلب أكثر من لحظة وعي، نتوقف فيها ونسأل أنفسنا: من أنا خارج هذه الشاشة؟.
هل أستطيع أن أعيش لحظتي دون توثيقها؟ هل أستطيع أن أُصغي لمن أحب دون أن أُقاطع حديثه برسالة واردة؟.
إقرأ أيضاً للكاتب : الذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق : أم كلثوم أسطورة تتحدى الزمن
التواصل الزائف
هل أستطيع أن أقرأ كتابا دون أن أنظر إلى الهاتف كل خمس دقائق؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي بداية استرداد إنسانيتنا وبداية تحريرنا من وهم الاتصال الزائف.
نحن نحتاج إلى لحظات صمت حقيقي لا تنقطع بإشعار، نحتاج إلى حوار من عين إلى عين ، لا من شاشة إلى شاشة.
نحتاج إلى إستعادة الدفء الذي لا تنقله الرموز التعبيرية، نحتاج إلى أن نعود بشرا قبل أن نصير روبوتات تتفاعل لكن لا تشعر.
التقدم لا يعني أن نكون أسرع بل أن نكون أعمق. أن نُحسن استخدام الأدوات، دون أن نستعبد لها.
أن نُمسك بالهاتف لكن دون أن نتركه يُمسك بنا، وكل إنسان معرّض أن يضيع في هذا الزحام الإلكتروني لكن لا أحد مجبر أن يبقى تائها.
التكنولوجيا لا تملك أن تسلبنا إنسانيتنا ومشاعرنا إلا إذا نحن سلّمناها مفاتيح الروح.
والمفتاح الأول للنجاة هو التوقف، والمراجعة، والاختيار. أن نختار الوعي بدل الاستسلام، والعُمق بدل السطح، والحياة الحقيقية بدل النسخة المعدّلة على الشاشة
قد لا نستطيع أن نُبطئ حركة العالم لكننا نستطيع أن نُبطئ خطواتنا داخله. أن نُعيد تعريف النجاح بعيدا عن عدد المتابعين وأن نُعيد تعريف الحب بعيدا عن رسائل “السين”.
أن نحيا كما نحن لا كما يتوقع منا الآخرون، و أن نتنفس بحرية خارج الحسابات ونكتب لأننا نشعر، لا لأننا نُريد التفاعل
. ولعل أجمل ما يمكن أن نفعله لأنفسنا هو أن نُغلق الشاشة قليلا، ونفتح أعيننا على الحياة، الحياة الحقيقية. حيث القلب يتكلم، والعين تُضيء، واليد تمتد بالمحبة لا بالإعجاب.