لم تعد الحياة تُعاش كما هي، بل كما يُراد لها أن تُعرض، ولم نعد نحن كما نحن، بل كما تتماشى مع الترند، وكما يُفترض أن نكون: مُحدثين متفاعلين مُدمنين للظهور.
أصبحنا جميعا نعيد صياغة أنفسنا تحت ضغط السؤال غير المعلن: “هل سأعجبهم؟”، وأمام هذا السؤال، تتغير لهجتنا، وملابسنا، وآراؤنا، وأحلامنا أحيانا.
الترند لم يعد ظاهرة إعلامية عابرة بل أصبح طريقة حياة. صار قطارا سريعا لا ينتظر أحدا، ومن لا يصعد يُتهم بالتخلّف أو يُعامل كأنه لا يُجيد العيش.
عندما نركض خلف كل جديد
وبينما نركض خلف كل جديد، نسينا ماذا كنا نُريد أصلا، ومن نكون. تخلّينا عن بوصلة الذات، وأمسكنا ببوصلة الرائج والمطلوب.
والنتيجة : ملايين يعيشون حياة لا تشبههم.
أن تكون كما أنت أصبح نوعا من التمرّد الهادئ، تمرّد لا يرفع الصوت لكنه يرفع القيمة.
و أن تقول ما تؤمن به لا ما يُرضي الجماهير أن ترتدي ما يُشبهك لا ما يلمع على الشاشات أن تقرأ ما يهمك لا ما يفرضه “الترند الثقافي”.
ياصديقي حب كما تشعر لا كما يُروّج له. في هذا الزمن أصبحت المظاهر أضخم من المشاعر.
إن الصورة أقوى من الحقيقة. والتمثيل أبرع من الصدق، وصار الإنسان يُقاس بمدى ظهوره لا بعمق حضوره. صرنا نهتم كيف نبدو أكثر مما نهتم بمن نكون.
منصة تلو الأخرى وكلها تطلب منك أن تُبهر أن تجذب أن تُجاري، لا أحد يطلب منك أن تكون صادقا فقط أن تكون مثيرا للاهتمام.
هل يفرط الإنسان في ذاته من أجل الترند ؟!
لكن الحقيقة المؤلمة أن هذا “الاهتمام” هش، لحظة واحدة تسقطك من القمة إلى النسيان.
صورة واحدة تنقلك من “المؤثر الأول” إلى مجرد رقم في قائمة طويلة من المنسيين.
ما الذي يجعل الإنسان يفرّط في ذاته بهذا الشكل؟ ربما هو الخوف من التهميش، الخوف من ألا يكون مرئيا.
لكن أسوأ ما قد يحدث للإنسان ليس أن يكون غير مرئي للناس، بل أن يفقد رؤيته لنفسه.
أي أن يُصبح مرآة لكل ما حوله دون أن يعرف وجهه الحقيقي.
الأصالة
الأصالة اليوم ليست موهبة فقط، بل شجاعة؛ لأن أن تكون أصيلا يعني أن تحتمل أن تُنتقَد، أن تُساء فَهمك.
و أن تُوصف بأنك غريب قديم غير مندمج، لكنها الغرابة الجميلة التي تُنقذك من الذوبان في القطيع.
الأصالة لا تجعلك الأعلى صوتًا، لكنها تمنحك صوتًا لا يُشبه أحدًا. انظر حولك ستجد أن أكثر من يُلهمك صدقا ليس من كانوا نجوما للحظة، بل من حافظوا على ملامحهم رغم تغيّر المشهد.
من قالوا “لا” حين كان الكل يصفق، من انسحبوا بهدوء حين صار الصخب بلا معنى، من احتفظوا بأنفسهم كاملة في زمن “البيع بالجملة. ”
إقرأ أيضاُ للكاتب : قهوة سادة على رصيف الذكريات
كن كما أنت وإترك الترند
كن كما أنت”.. عبارة تبدو بسيطة لكنها مُرعبة حين تفكر فيها؛ لأنك حين تكون كما أنت تُجبر نفسك على المواجهة: من أنا فعلا؟ ماذا أريد؟ ما الذي أؤمن به؟ وما الذي أزيفه كل يوم؟.
إنها أسئلة ثقيلة، لكنها ضرورية حتى لا تستيقظ يوما، وتكتشف أنك كنت مجرد ظل لخيال الآخرين.
ربما لن تُعجب الجميع، وربما لن تُصبح “ترند”، وربما تمرّ بك الأيام دون أن يُصفق لك أحد.
لكنك في المقابل ستنام كل ليلة دون قناع، وستُقابل نفسك في المرآة دون خجل.
وستعيش حياة قد تكون هادئة، لكنها حقيقية.
إقرأ أيضا للكاتب : الذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق : أم كلثوم أسطورة تتحدى الزمن
نسختك الصادقة
ولأن الحياة ليست منصة عرض، ولا نشرة أخبار، ولا وسما يُسوّق، فإن أفضل ما يمكنك أن تهديه لها هو نسختك الصادقة.
تلك النسخة التي لا تلمع دائما، لكنها لا تكذب أبداً، لا تسعى لأن تُدهش بل لأن تفهم.
و لا تركض لتُبهر بل تمشي لتتأمل، لا تكن ترندا مؤقتا.. بل أثرا حقيقيا؛ لأن الترند يُنسى، أما الحقيقة فتبقى.