بقلم : نرمين عليم باحثة تراثية
حمل المصري دائماً ثقافة الاحتفال وعشق الأفراح والبهجة، واتخذ من الخضرة بساطاً يمشي عليه ومن النهر مكانا يتنزه فيه ومن الزرع طعاما، ومزج كل هذه العناصر بموروث شعبي، يربط العديد من المناسبات الدينية والاجتماعية بالعادات والمعتقدات الشعبية للجماعة.
وقد درج المصري القديم على ربط كافة مناسباته الدينية بعادات غذائية تأصلت ضمن ثقافته الشعبية، وهويته التراثية، وشغلت مكانًة كبيرًة ضمن نسيجه الوطني، وشكلت جزءًا مهمًا من شخصيته القومية، ولازمته في كافة أوقاته.
قد يهمك أيضا :إبداعات على النحاس (azwaaq.com)
ويحمل الطعام تراث الشعوب، وتعدد المراكز الثقافية المشكلة له، فلكل منطقة تراثها الغذائي، وأطباقها المميزة، وطرق الإعداد الخاصة بها، طبقًا لتوافر المواد الخام في هذه المنطقة، وتخضع الأكلات لعادات ومعتقدات وطقوس خاصة بهاعند تناولها تختلف من منطقة لأخرى؛ حتى لو كانت تلك الوجبة تحضر بذات المكونات في العديد من المناطق.
ويعقب الشهر الفضيل، عيد الفطر المبارك أحد أهم الأعياد الدينية التي يحتفل بها المسلمون، ويعكس هذا العيد ثقافة كل شعب من شعوب الأمة الإسلامية، ويحمل في طياته الموروث الشعبى لكل مجتمع على حدة، وربما لكل مجتمع ثقافي من مجتمعات الوطن الواحد، كما هو الحال في مجتمعنا المصري الأصيل.
ويشارك المصريون في احتفالاتهم بعض الأكلات الشعبية الشهيرة مثل: الكعك والأسماك المملحة، واللذان يبدأ إعدادهم قبل العيد ببضعة أيام، ويرجع تاريخ صناعة الكعك عمومًا إلى المصري القديم، وقد ارتبط لديه بالأحتفالات والأعياد الدينية، وكان يقدم قربانً للآلهة ويسمى (قرص) نسبة الى شكل قرص الشمس، وكان ينقش وجه الكعكة بشكل أشعة الشمس، وقد وجدت نقوش على مقابر (رخمى -رع)، أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، يذكر فيها طريقة إعداد الكعك؛ بأن يخلط الدقيق بالسمن وعسل النحل، ويدمج ليصبح عجينة، ثم يشكل على هيئة أقراص منقوشة، ويرص على الألواح، التي توضع في الأفران أو يقلى في السمن، وكان حجم الكعكة يقارب حجم رغيف العيش.
قديهمك أيضا: الزجاج المنفوج البلدي (azwaaq.com)
واستمر الكعك ضمن العادات المصرىة عبر العصور اليونانية والبيزنطية، وأصبح يقدم في الاحتفالات الاجتماعية؛ حتى جاء العصر الاسلامي، خاصًة في عهد الطولونيين؛ حيث صُنع الكعك في قوالب خاصة، ونُقش عليها كلمة ” كل وأشكر ” أو ” كل وأشكر مولاك “، وكان يتم حشوه بالدنانير ويوزع على الفقراء فى العيد كنوع من انواع الصدقات؛ ومن هنا درج المصريون على حشو كعك العيد بالمكسرات والملبن، أو العجوة، ويقدم مرشوشاً بالسكر الناعم فى كل الأحوال.
واعتادت بيوت المصريين أن تستقبل عيد الفطر المبارك بإعداد الكعك قبل بضعة أيام من العيد، وفي الأيام القليلة المتبقية قبل الاحتفالات بعيد الفطر تزداد حركة المصريين وترتفع حماستهم لتحضير كعك العيد، كونه الحلوى الشعبية الشهيرة، وتشهد البيوت والأسواق نشاطًا كبيرًا في هذا الوقت، حيث يشتري أفراد المجتمع بكل فئاته المكونات ويبدءون في عملية الإعداد.
وتتحول المطابخ المصرية إلى ما يشبه المعامل الصغيرة التي تنتج كميات كبيرة من كعك العيد، وتشمل عملية الإعداد عدة خطوات، بدءًا من خلط المكونات الأساسية، وهي الدقيق والسمن والسكر، بالإضافة إلى المكسرات والملبن، ثم يتم تشكيل العجينة إلى أشكال مختلفة وتنقش بأداة يدوية ذات أسنان تسمى “منقاش”، وأخيرًا يتم خبزها في الفرن حتى تصبح ذات لون ذهبي جميل.
وهذه الأيام لا تقتصر على النساء أو البالغين فقط، بل يشارك الأطفال أيضًا في هذه الاحتفالات، ويتجمعون حول الكبار للمساعدة في تحضير الكعك، وتتحول العملية إلى نوع من الاحتفال الشعبي، الأطفال يتنافسون في تشكيل الكعك وتزيينه، والنساء والفتيات يحشونه وينقشونه في مجموعة متنوعة من الأشكال والأحجام التي تعكس خيال الجميع وإبداعاتهم، ويقمن النساء الكبيرات في السن بدور مهم أيضًا؛ حيث يتم تحضير الكعك وفقًا للوصفات القديمة المتوارثة، والتي تم تمريرها عبر الأجيال، وهذه الوصفات تضمن النكهة الغنية والمذاق الفريد الذي يتميز به كعك العيد، ثم يأتي دور الشباب والفتيان لاستلام الصواني والذهاب بها إلى الأفران لخبزها، والعودة بها إلى المنازل في مهرجان ملء بالبهجة والزغاريد فيما يشبه العرس الشعبي.
وعندما يأتي اليوم الكبير، يوم العيد، يتم تقديم الكعك بعد العودة من صلاة العيد داخل المنزل لأفراد الأسرة والأصدقاء، والأقارب والجيران كجزء من الاحتفالات بهذا اليوم المبارك لذا؛ فإن الكعك لا يعد مجرد حلوى تقدم في هذه المناسبة، بل هو رمز للمحبة والترحيب، والمشاركة في الأفراح المشتركة.
ثم يأتي موعد وجبة الغذاء، وعادة ما تكون إحدى الأكلات المصرية الشعبية الشهيرة مثل: الكشري أو الأسماك المملحة، وهما من الوجبات التي يشتاق لها المصريون بعد شهر رمضان لأنهم يرجئون أكلهما خلال الشهر الفضيل؛ نظرًا لما يسببانه من شعور بالعطش.
في واقع الأمر إن نشأة المصريين على ضفاف النيل وارتباطهم بالزراعة؛ أوجدت لديهم ثقافات المجتمع المستقر، وعززت الصلات بين ثقافتهم وهويتهم، وحملت ضمن موروثهم الشعبي عاداتهم الغذائية؛ حيث يمثل الطعام جزءًا لا يتجزأ من الثقافة المصرية، وعلى الرغم من التعددية الثقافية للمجتمع المصري؛ إلا أن هناك إجماعًا على اقتران الطعام بالمناسبات الدينية والاجتماعية لدى المصريين، واعتباره جزءًا من المكون الفسيولوجى لهذا الوطن.
وعادة ما ترتبط عادات وتقاليد الطعام بالنساء؛ كونهن المشرفات على تجهيز وإعداد الطعام داخل المنازل؛ لذلك؛ فإن العادات الغذائية تلقي الضوء على الدور الذي تلعبه المرأة في المجتمع عبر الزمان والمكان؛ حيث يُعد الطعام جزءًا لا غنى عنه في التأريخ الثقافي لدور النساء في المجتمع؛ باعتبارهن حاملات التراث الثقافي للمجتمع.
وقد ذكر مايك كرانج الأستاذ بجامعة دورهايم البريطانية في كتابه (الجغرافيا الثقافية)، إن الطعام يُعد دلالات واضحة على الثقافات المختلفة حول الكرة الأرضية، وإن مطاعم الأكلات الشعبية حول العالم، ما هي إلا أماكن للتدفقات الثقافية والاجتماعية، تُنتج فيها الثقافة وتتكاثر متخطية كل الحدود بين الدول، وهناك دلالات على ذلك، فنحن نجد أن المحاشي المصرية تقدم في سوريا، والكسكسي المغربي يقدم ضمن أطعمة المناسبات في الريف المصري، ويؤكد مايك أن الثقافة الغذائية جزء من طقوس البهجة لدى شعوب الأرض وهي عناصر ثقافية وليس مجرد حشو معدة .
وتلعب ثقافة الطعام لدى الشعوب دوراً أساسياً في تعزيز عناصر الموروث الشعبي، وتأصيل الهوية، وترتبط ارتباطاً وثيقًا بالبعد الاجتماعي والظروف الاقتصادية التي يمر بها المجتمع، ويُعد الموروث الشعبي الغذائي ثروة لدراسة علم نفس الشعوب، كما يمثل القوة المعيارية السسيولوجية التي تمكن الباحثين من دراسة البعد النفسي لأفراد المجتمع، ويمنح إمكانية تحليل أنماط تفكير أفراده وعاداتهم، ومعتقداتهم التي جاهدت للبقاء، ولم تفقد مكانتها وأهميتها على الرغم من تعرض المجتمع للعديد من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي قد تترك بصمتها على جوانب أخرى من حياة أفراد المجتمع.
إن الطعام أحد خيوط نسيج الشعب العربي ككل، وإحدى أهم ركائزه في المناسبات الدينية والاجتماعية، ومصدر البهجة والسعادة له، وحامل تراثه وهويته العربية، وثقافته الشعبية عبر الأزمان والأجيال.
دامت بلادي ودامت أمتنا العربية كلها بالخير والبركات.