تُعتبرالشرقية من أهم المحافظات المصرية التي تحدث عنها الرحالة الأوربيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ حيث أشاروا إلى أهمية موقعها باعتبارها إحدى بوابات مصر القديمة، وأشادوا ببيوتها ومصانعها وحدائقها ومزارعها، وقد شهدت في العصرالحديث العديد من الأحداث الهامة، ومنها توقيع ميثاق جامعة الدول العربية بقصرالملك فاروق بقرية ” أنشاص” عام 1946.
وعبركتاب جديد بعنوان”الشرقية ذاكرة الشوارع وحكايات المدن …صور ووثائق نادرة” للدكتورعمرومنيرأستاذ التاريخ الوسيط بجامعتي أم القرى وجنوب الوادي يعيش القاريء العربي ربما لأول مرة بين بيوت “الشرقية” ومدنها ودروبها العتيقة وشوارعها المتعرجة؛ ليغوص في حكايات شائقة وشائكة يستمتع من خلالها بدفء المشاعرالإنسانية وعبق الماضي.
ولا تُعد هذه “النزعة النوستالجية” التي تسيطرعلى الكتاب وقارئه هي وحدها الهدف من اهتمام الكاتب بالتوغل في تراث “الشرقية” وفلكلورها؛ إذ أنه كان يتطلع كذلك إلى “نوع من التمهيد لإعادة صياغة أخرى للواقع الحالي على حد تعبيره، يقول عضوهيئة المخطوطات الإسلامية بكامبردج TIMA) ) ل“أذواق”:” يعزز الكتاب أهمية وجود ذاكرة للوجدان الشعبي العربي بشكل عام، و”الشرقاوي” على وجه الخصوص، مايعمل على بث معطيات جمالية تدفع المرء إلى تعزيز روعة الانتماء لمكانه وجذوره”.

“استراحة أنشاص” في الشرقية (مصدر الصورة د. عمرو منير)
الشرقية الكوزمباليتية
وبسبب ما يتسم به الكتاب من أسلوب فني مُحكم، ومحتوى بسيط وعميق يقفز القاريء بين السطوروكأنه يتبع نفس ايقاع الخيول العربية الأصيلة التي تشتهربها “الشرقية”! لتتراءى له حكايات التاريخ والتراث والفلكلورالتي تضمها أبواب الكتاب الستة بين دفتيها، ولعل من أكثرما يفاجيء القاريء هو اكتشافه ذلك الزخم والتنوع الثقافي غيرالمتوقع للمحافظة؛ فإذا كنت قد اعتدت على أن يردد الكثير من الباحثين على مسامعك هذه السمة الكوزمباليتية على الإسكندرية (شمال مصر) فإنك ربما تقف طويلاً أمام حقائق يذكرها منير بالكتاب عن “الشرقية” التي ارتبطت في الأذهان بالطابع الريفي وحده.
يقول :”تختلف “الشرقية” عن أي مكان مصري آخر بتنوع سكانها مابين الفلاحين والعائلات المصرية العريقة وأحفاد الجاليات الأجنبية والمتأثرين بها، حتى إنني لازالت عندما أعود من السفر إليها أسير في شوارعها؛ لعلني أجد أثراً للجاليات التي سكنت الجدران المتداعية؛ فهنا سكن الأرمن واليونانيين والفرنسيين والإيطاليين والإنجليز والروس والألمان والبرتغاليين والفرس والسريان والعرب”.
القبائل العربية في الشرقية
يقودنا هذا إلى حديثه في الكتاب عن “القبائل العربية ” التي جاءت إليها طلبا للرزق بعد الفتح الاسلامي لقربها من بلاد العرب، ومن ثم توالت وفود القبائل العربية على مصروصاهروا أهلها، وارتبطوا بهم، ومن الشرقية انتقلت إلى مناطق أخرى بمصرمنها البحيرة والصعيد، وذلك هو سرمقولة الصعايدة دوما أن” الشراقوة هم أولاد عمنا” .
ومن خلال الباب الخامس الذي جاء بعنوان ” قبائل الشرقية بين التاريخ والموروث الشعبي” نتعرف على المزيد عن حياة “عرب الشرقية”عاداتهم وتقاليدهم، وهي من أكثر أجزاء الكتاب متعة وإفادة؛ لاعتماده على رؤى جديدة وتفاصيل دقيقة استمدها من شيوخ قبائل عربية من أصدقائه مثل “قبيلة الطحاوية “.
كما تناول تفسيره لتوليهم مراكز مهمة في الجهاز الحكومي المصري في القرن 19، كاشفا عن طقوس وحفلات العرس وسائرالمناسبات الإجتماعية مثل فن “كف العرب” و”دق الكف” الذي يقام قبل العرس بنحو شهر، وفيه يجتمع شبان البلدة والبلاد المجاورة لها ويقفون على شكل نصف دائرة ويصفقون مع مد أيديهم إلى الأمام وجذبها إلى الخلف بنظام واحد، ويرتلون بعض الكلمات، كما يشيرالكتاب إلى ألعابهم مثل الحكشة أو الجدلة ولعبة العشرة والعشرين والسيجة والجريد.
الخيول العربية في الشرقية
ويؤكد الكتاب أن هذه القبائل كانت وراء شهرة المدينة بتربية الخيول العربية الأصيلة حيث قامت بشراء الخيول وتدريبها مستغلة انخفاض تكلفتها لجودة المراعي بالشرقية، مشيرا إلى أن من اوائل القبائل التي جلبت الخيول هي قبيلة”قيس”.
سر العمران المبكر في الشرقية
كما يفاجئك تمتعها بسمات التحضرو”العمران المبكر” بها يقول”بعد تثبيت محمد علي أركان حكمه في مصر وضع خطة طموحة لتحديثها وجعلها تلحق بركب التقدم، وكانت الشرقية محط اهتمامه؛ لذلك لاتندهش حين تتعرف على وصف الرحالة إسماعيل مصطفى عام 1927 للزقازيق ـ عاصمتها ـ بإنها”مدينة عامرة ذات قصورشاهقة وأكثر مبانيها حديثة، وتزيدها جمالاً أشجارها الباسقة على جوانب شوارعها” .
وكان في الزقازيق حركة تجارية نشطة، وقد رصد الرحالة سعودي شلبي عام 1903 الكثير من الأسواق والدكاكين إضافة إلى عدد من الخانات المشحونة بالبضائع وبنوكات للتجارة، و من ملامح الحداثة بها إعلانات لمحلات الملابس والأحذية والحقائب المستوردة من باريس ولندن للرجال والسيدات على السواء”.
كما احتضنت عدداً كبيراً من المساجد والكنائس والمدارس والمصانع والبيوت الفخمة ذات الحدائق والمشربيات، وشهدت وفق ماجاء في الكتاب إقامة عدد كبير من المساجد و الكنائس و المصانع ومنها مصنع الغزل والنسيج، والقصور والبيوت الفخمة ذات الحدائق والمشربيات، إضافة ً إلى عدد كبير من الفنادق و اللوكاندات.
في الحقيقة كان وراء التطور السريع في الزقازيق العديد من العوامل بحسب منير”كان أهمها ما ذكره فيض الله نوري مدير الشرقية حين أرسل تقريرا إلى سعيد باشا عام 1862 جاء فيه أن بندرالزقازيق قد أصبح عامرا بعد إقامة الكثيرمن التجار المسلمين والأوربيين فيه وكذلك إقامة العمال المشتغلين في حفر قناة السويس من الوجهين البحري والقبلي”.

فرقة الموسيقى بمدرسة الزقازيق الإبتدائيةعام 1928 ( مصدر الصورة المؤلف)
حكايات إنسانية
حرص منيرعلى التأكيد على دورالمرأة منذ عشرينات القرن الماضي مؤكدا على جمالها وأناقتها وعصريتها ودورها في المجتمع، راصدا مجموعة من الأسماء النسائية البارزة.
ومن الحكايات الإنسانية والوطنية الهامة التي يرويها الكتاب والموثقة بالصوروالوثائق هي حكاية الحاج خليل عفيفي الذي يتضمن الكتاب توثيقا لزيارة الكاتب لبيته ولقائه بأحفاده وحمله لصورته، وعفيفي وفقما جاء بالكتاب هو تاجر أقمشة وطني ظل يؤرقه عند وفاة الزعيم محمد فريد في ألمانيا عدم مجيء جثمانه إلى مصرليحتضنه تراب مصر التي كان يعشقها فقام عفيفي ببيع متجراً كبيراً له بمبلغ 5 آلاف جنيه وسافر ليأتي بالرفات وبالفعل نجح بعد مرور فترة من تحقيق حلمه ويقال إنه ظل يحتضن تابوت الجثمان على السفينة التي حملته.

دكتور عمرو منير يحمل صورة التاجر الوطني خليل عفيفي الذي جاء برفات الزعيم محمد فريد من ألمانيا ( مصدر الصورة المؤلف)

الزعيم أحمد عرابي إبن الشرقية مع إبنيه وأحفاده وإثنين من أصدقائه الأجانب في شارع بابلي بالمحافظة ( مصدر الصورة المؤلف)