قراءة وعرض د. عمرو عبد العزيز منير
كاتب وأكاديمي وأستاذ الفولكلور والتاريخ الوسيط
الترجمة قبل أن تكون نقل المعارف من لغة إلى أخرى، فهي فن يشمل الاختيار الذكي والدقيق والحاجة الثقافية، وهو ما أجاده أحمد شعير ( زميل باحث بمركز الدراسات الشرق اوسطية جامعة ماربورج) الذي أثرى المكتبة الغربية بتأليف وترجمة ودراسة أسهمت في مراكمة معرفة تاريخية وثقافية لها أهميتها في أسئلة الحاضر وقضاياه. وقد اختارمؤلَّف ومترجم كتاب ” أسطورة الكاهن جون (يوحنا) بين الشرق والغرب في عصر الحروب الصليبية. موروثات أسطورية شرقية- لاتينية متشابكة” ” الصادر في لغته الإنجليزية سنة 2022م ضمن منشورات (trivent puplishing ) بودابست (المجر) كتاب يتحدث عن موضوع جديد “لم تسبق معالجته إلا بطرق عرضية في بعض الدراسات الوسيطة ، ويتعلق الأمر بالغرب والإسلام والمغول ودور الأسطورة في تشكيل الصور الذهنية عن الآخر؛ وذلك من زاوية العلاقات بين البابوية والمغول وجيرانهم المسلمين طوال فترة التصادمات بين الشعوب ، إلى حدود الحقبة الوسيطة “.اختار شعير التعايش لموضوعه فاعتمد، في دراسته، على وثائق ومخطوطات متنوعة محررة باللغات العبرية والعربية والأوروبية لم يسبق استغلالها. ولا تقتصر هذه الدراسة الرائدة على إتاحة إمكانية تعميق فهمنا للعلاقات المعاصرة بين المسلمين والآخر في ضوء المفاهيم الأسطورية لدى كل الأطراف، بل سعت أيضا إلى إحداث تغيير في الطريقة التي تفكر بها في التاريخ المغولي وفي طبيعة العلاقات بين المغول والبابوية وجيرانهم المسلمين في العصر الوسيط.
في هذا الكتاب يفتح المؤلف آفاقاً أمام القارئ الغربي لم يعهدها في قراءة التراث الأسطوري للغرب والشرق حول الإسلام، فهو إذ يقرأ قصة الكاهن يوحنا، فإنه يعيد قراءة تاريخه على صعيدين: يعنى الأول بكشف التاريخ الفعلي الذي عاشه الكاهن يوحنا عبر التاريخ، كما كتب في الوثائق والمدونات، ويعنى الثاني بكشف الأسطورة التي تركها الكاهن يوحنا في الخيال اللاتيني الغربي والشرقي. وما إن تمّ ترميم هذه الأسطورة، حتى صارت أساساً للدراسة المقارنة للأسطورة والرمز، وصولاً إلى نقاش أدبي شديد التركيز منهجية التاريخ المتشابك، التاريخ العابر للثقافات، ومنهجية التفسيرات التأويلية للنصوص المصدرية، والمنهج التحليلي والمقارن. كما قدم الباحث في مقدمته عرضاً فريداً للدراسات السابقة، وأبرز بمهارة عالية الإضافة الجديدة لدراسته والتي تمثلت في شكل رئيس في تقديم فحص تاريخي للتاريخ الشرقي والغربي/ الإسلامي والمسيحي المتشابك لأسطورة الكاهن يوحنا من خلال وجهة نظر المصادر الشرقية (عربية وسريانية وقبطية) واللاتينية، مع تقديم وجهة نظر عابرة للثقافات تختلف عن تلك التي قدمتها الدراسات السابقة والتي انحصرت في وجهة نظر مقتضبة ومقتصرة في إطار ما يسمي المركزية الأوروبية والألمانية لدراسة الأسطورة.
يدافع الفصل الأول وعنوانه ” وضع إطار جغرافي أسطوتاريخي لأسطوة الكاهن يوحنا” عن الأصول الاصطلاحية والتأريخية للأسطورة وتشابكها مع التاريخ من خلال وجهة النظر الغربية اللاتينية الوسيطة والحديثة، وكذلك العربية والشرقية. كما تطرق الباحث في شرح العلاقة بين الأسطورة والتاريخ، موضحاً الأبعاد “الأسطوتاريخية” لفكرة الأسطورة وكيفة تشابكها مع واقع أحداث الحروب الصليبية، واختلاطها بواقع الاحداث الجارية بين التأثير والتأثر المتبادل. واختتم الفصل بعرض التاريخ البعيد لأصول الأسطورة في نهايات العصر القديم وبدايات العصور الوسطي تزامناً مع ظهور الإسلام، واندماج الرؤي والأساطير بالواقع كرد فعلي “عاطفي” متخيل لانتشار الإسلام في القرن السابع، وكيف أن الأسطورة مثلت نموذجاً متطوراً لنبوءة الإمبراطور المسيحي الأخير التي تعود جذورها إلي القرن السابع الميلادي، موضحاُ ان الكاهن يوحنا كانت نموذجًا متطور لفكرة المنقذ المسيحي ذو الصفات العلمانية والدينية المتقدم من الشرق المتخيل تحت مسمي “بلاد الهند الثلاث” إلي الأراضي المقدسة من أجل مساعدة الصليبين/الفرنجة.
ويوضح الكتاب كيف يبرز البعد المأساوي للأسطورة مع ولادة أسطورة الكاهن يوحنا في إطار الصراع الصليبي-الإسلامي إلى الصدارة في التراث الغربي بين الانتقال والاستقبال، ثم يقدم تاريخاً مغايراً للتدوين الأسطوري، معالجاً وموضحاً الأصول الأولي لانتشار الأسطورة ما بين عامي ١١٢٢ و١١٤٥ في أوروبا اللاتينية والولايات الصليبية في بلاد الشام، مبيناً أن الأسطورة كانت رد فعل لبدايات معرفة الغرب الأوروبي للتقاليد المسيحية الشرقية الخاصة بالقديس توماس في الهند في عام ١١٢٢، ثم بروزها في رواية شفهية علي لسان هيو أوف جبلة القادم من بلاد الشام لزيارة البابوية وسجلها كتابةَ المؤرخ الألماني الشهير أوتو أوفريزانج في حوليته “تاريخ المدينيتن” ضمن أحداث ١١٤٥. وبين الباحث أن هذا الانتشار المباشر للأسطورة كان رد فعلي لاسترداد الاتابكي عماد الدين زنكي لولاية الرها من الفرنجة في عام ١١٤٤. وجاءت بنية الأسطورة علي معركة حقيقة حدثت وسط أسيا بين أمير القراخطائيين “يولوتاشي” والسلطان السلجوقي سنجر في معركة قطوان ١١٤٢، والتي انتهت بهزيمة مفجعة للسلاجقة، تناثر علي أثرها شائعات تقول أن “يولوتاشي” قائد مسيحي استطاع هزيمة المسلمين. ومن هنا، كانت تلك المعركة أرض خصبة لتشابك الأسطورة بحدث واقعي أفرز ملك ومملكة خيالية في شكل منتج جديد يسمي الكاهن يوحنا أو الملك-القديس جون.
أما الفصل الثالث فيتخذ من “خطاب الكاهن يوحنا واستقباله بين الأزمة الصليبية في الشرق والانقسام البابوي الإمبراطوري في الغرب الأوروبي”، نقطة انطلاق له ليصل إلى تذييل الدراسة المقارنة للملحمة القديمة والكلاسيكية بنظرة تفضي إلى مزيد من التحديد والتأويل لرمز انتشار الأسطورة في ظل المشاكل التي مر بها الكيان الصليبي حينذاك والخلافات بين الإمبراطور فردريك باباروسا والبابا ألكسندر الثالث في أوروبا. وأفرد الباحث تحليلاً لظهور خطاب وهمي من الكاهن يوحنا مرسل إلي الإمبراطور البيزنطي والذي نقله بدوره إلى الغرب الأوربي والبابوية، يصف في شكل أسطوري ممكلة الكاهن يوحنا المسيحية في بلاد الشرق الممتدة بين الهند والحبشة والتي جاءت بمسمي “بلاد الهند الثلاث” في مخيلة المنتح الأوروبي-اللاتيني لخطاب الكاهن يوحنا ومملكته. ووضح الفصل العلاقة بين الإنتاج الأسطوري للخطاب والدعايا الأسطورية من قبل دعاة الإمبراطورية ضد البابوية في الغرب الأوروبي، وكيف ان النتاج الأسطوري للخطاب وترجمته إلي اللاتينية عن الأصل اليوناني المفقود قد تم علي يد قساوسة ألمان موالين للإمبراطور فردريك في مدينة ماينز وكولن الالمانيتين. وقد دللت الدراسة بمهارة علي ذلك بمقابلات تحليلية لنصوص مصدرية وأراء بحثية متنوعة. وفي نهاية الفصل وضحت الدراسة الأبعاد الجغرافية والفكرية لانتشار الخطاب في الأطار الأوربي خلال القرن الثاني عشر من خلال دراسة إحصائية لعدد من المخطوطات المحفوظة بالأرشيفات الأوربية للخطاب والتي تعود كتابتها للقرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.
وأفردت الدراسة في فصلها الرابع وعنوانه “تصور ممكلة أسطورية مسيحية في الشرق: تشابكات أسطورة الكاهن يوحنا مع ملحمة الاسكندر المقدوني والخيالات العربية والمسيحية الشرقية”، الأصول الشرقية والتشابكات اللاتينية العربية لفكرة الأسطورة وانتاجها المتخيل فيي شكل لاتيني-كاثوليكي في القرن الثاني عشر الميلادي. قدم الباحث تحليل نصي وتاريخي للتشابكات بين النص اللاتيني لملحمة الإسكندرية والخطاب اللاتيني للكاهن يوحنا، موضحاً ان البنية الخيالية لمملكة الكاهن يوحنا قامت على روائع الشرق العائدة إلي الإسكندر المقدوني والتي جاءت في تشابك متزامن مع ما دونته المصادر الجغرافية والأدبية والتاريخية العربية ذات الصلة. فعلي سبيل المثال، قدم الفصل عرضاً رصيناً لملوك ومماليك مسيحية مماثلة لممكلة الكاهن يوحنا في في بلاد الهند الثالث، عند الأدريسي وأبو المكارم القبطي وروايات السندباد في ألف ليلة وليلة وكذلك تطرق لممالك خيالية المشابه في الرحالات اليهودية للداد داني وبنيامين التطيلي. وبنهاية الفصل أوضح الباحث أن مصطلح “الملك -الكاهن” أو “الملك القديس” كان لقب لملوك مسيحية أسطورية تناولتها المصادر العربية والشرقية السابقة والمعاصرة لوقت انتاج خطاب الكاهن يوحنا وومملكته، مما يبرهن علي الأصل الشرقي للأسطورة ومنتجها الخيالي في الخطاب المزعوم أعلاه والذي انتشر في الغرب الأوروبي مع بدايات سبعينات القرن الثاني عشر الميلادي.
أما الفصل الخامس فجاء بعنوان “في انتظار الملك داود “ديفيد” ابن الكاهن يوحنا: تأثير الأسطورة علي الحرب والسلم أبان الحملة الصليبية الخامسة علي مصر (١٢١٧-١٢٢١/ ٦١٥-٦١٨هــ). تناول الفصل تحليلاً تاريخياً للنصوص اللاتينية المروجة للأسطورة وقت الحملة الصليبية الخامسة على مصر، مبيناً أن الاعتقاد في قدوم الكاهن يوحنا أو ابنه الملك داود كان من أسباب رفض الصليبيين لعروض السلام المقدمة من السلطان الأيوبي الكامل. وركز الفصل علي توضيح الأصل العربي والشرقي للنصوص المتداولة عن الأسطورة وقت الحملة الخامسة من خلال تحليل النصول والخطابات اللاتينية ومقابلته بعدد من النصوص ذو الأصول العربية القبطية والعربية السريانية مثل الأنبا أثناسيوس الكبير والأنبا صامويل القلموني نبوءات السرياني أسحاق بن حنين، بالإضافة إلي أسطورة داود الحبشي ذو الأصول السبائية السليمانية في مخطوطة “كيربا ناجيتس”. وفي تحليله للبنية الخيالية للأسطورة المبنية على حدث واقعي آنذاك، بين الباحث أن كل النصوص المتدوالة عن الكاهن دواد ابن الملك يوحنا تشير إلي الأنشطة العسكرية والمعارك المغولية ضد المسلمين والدولة الخوارزمية في وسط أسيا والتي حولته النصوص المروجة للأسطورة علي أنها من أعمال الملك داود وجيشه المتمثل في المغول.
وتابعت الدراسة تشابكات الأسطورة مع المغول في فصلها السادس والمعنون “النموذج المغولي للكاهن يوحنا: ذاكرة الأسطورة ومشروع حملة صليبية-مغولية ضد المسلمين في النصف الثاني من القرن الثالث عشر”. وهنا، أوضحت الدراسة في فصلها الأخير التطور الأخير للأسطورة عصر الحروب الصليبية في شكل القائد المغولي “أونج خان” وخليفته جنكيز خان، مبيناً ان البعثات التبشرية التي أرسلتها البابوية ومن بعدها ملوك الغرب الأوروبي مثل لويس التاسع قد ادمجت بين الكاهن يوحنا والمغول. وبينت الدراسة في تحليل فريد للنصوص اللاتينية لكل من رحلات يوحنا الكاربيني وسيمون ووليم روبرك وماركو بولو وأخرين، أن الاعتقاد الأوروبي في تقبل الأوربيين للمغول جزءً من شعب الكاهن يوحنا قد مر بثلاث مراحل: الأولي، أن الصورة المتخيلة للمغول كونهم جيش الكاهن يوحنا تزامنت مع الحملة الخامسة وامتدت لما بعد الحملة السادسة إلي أن اجتاح المغول الجزء الشرقي من أوروبا. والثانية، ظهر جنكيز خان كونه وريث الكاهن يوحنا والمتغلب عليه ومحتل أرضه. و الثالثة التي أفرزت صورة شبه حقيقة بنهايتها، جاءت متنوعة بين أن المغول انتصروا علي الكاهن يوحنا ولكن بقايا شعبه ونسله مازال متواجدين بين المغول، مروجة ان خانات المغول تحول بعضهم للمسيحية. فعلي سبيل المثال، رُجت شائعات ان زوجة هولاكو خان كانت بنت الكاهن يوحنا وان باتو خان وابنه سمباط قد تحولوا للمسيحية وهو ما نفته التقارير اللاتينية المتأخرة. ومع ذلك ظل الاعتقاد في الأسطورة إلى ان وجدت لها أرضاً خصبة جديدة في شخص الإمبراطور الحبشي في القرن الرابع عشر. وتميزت الدراسة بتحليل الروايات السريانية الوحيدة والفريدة التي أوردت معلومات عن “جون المغولي” والمسمى الملك جون أونج خان عن ابن العبري. وقدمت الدراسة مقارنة رصينة بين رواية ابن العبري والروايات اللاتينية، وأوضحت كيفية انتقال الروايات السريانية عن جون المسيحي المغولي لتضم شخصية الكاهن يوحنا وابنه في اطارها الكاثوليكي اللاتيني. كما قارنت الدراسة الصورة الأسطورية للمغول في روايات بعض المصادر العربية ومدي تشابها مع الروايات اللاتينية وان اختلفت المسميات والبنية.
تقع ترجمة هذا المؤلف في 400 صفحة من الحجم الكبير وتتضمن بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، ستة فصول بلغة تزاوج بين السرد الممتع والتأريخ الموثق استنادا إلى الوثائق والمخطوطات والشهادات والاستنتاجات الدقيقة وباعتماد منهجية صارمة في الكتابة، وتضمن الكتاب أيضا تسع صفحات في البداية هي عبارة عن “شكر وامتنان” تشكل وثيقة ودرسا في البحث العلمي والأمانة مثلما تقتضيها أعراف الكتابة الرصينة. كما أن تجربة أحمد شعير في الترجمة مع مخزونه اللغوي وتجربته وموقعه العلمي، منحت الكتابة سلاسة في البناء واللغة وعمقا في الأفكار.

الدكتور عمرو منير كاتب وأكاديمي وأستاذ الفولكلور والتاريخ الوسيط ( أذواق)