ليست كل القهوة تُشرب لتفيق… بعضها يُشرب لتتذكّر!.
كنت أمرّ من أمام المقهى دون أن أتوقف كأن بيني وبينه اتفاق صامت: لا وقت للحنين الآن.
لكن في ذلك الصباح البعيد سحبتني الرائحة قبل أن تسحبني الذكرى.
جلستُ دون تفكير ، وطلبت: قهوة سادة .. فأبتسم النادل كأنه يعرف أن هذا الطلب لا يأتي من غرباء، بل من عائدين.
المقعد الخشبي الذي جلست عليه كان يئنّ تحت وطأة الغياب. كأن أحدهم ظل يجلس هنا لسنوات يحكي ويضحك وينتظر.
كان المشهد كاملا كأن الزمن لم يمر: الصحف مفرودة على الطاولة المجاورة صوت عبد الحليم يغني “جانا الهوى”.
وكوب شاي مهمل على الطاولة ، يشبه أحلام ناس نسيوها في الزحام.
سألت النادل إن كان يتذكّر رجلا خمسينيا كان يأتي كل مساء… يحمل جريدة ويطلب “قهوة سادة من غير وش”. ردّ علي ببساطة: “كان بيقعد هنا… مكانك بالضبط… ومات فجأة زي ما بيعيش اللى بيحبوا القهوة السادة.
من غير تمهيد. صمتّ طويلا. كان أبي. أبي لم يكن يحب الأشياء التي تأتي بسهولة… لا القهوة ولا النجاح و ولا الناس. كان يقول: “الحاجة لما تكون سادة بتبان نيتها”.
إقرأ أيضا للكاتب : مفارقات الحياة .. حين تصبح البساطة معقدة !
القهوة على الرصيف !
لم يكن يشرب القهوة ليصحى بل ليهدأ. كان يشربها على الرصيف في نفس هذا المكان، حيث تمرّ الحياة على مهل، ويتصافح الناس دون كلمات سرّ.
أتأمل المشهد اليوم… شباب يجرون في كل اتجاه في آذانهم سماعات، وفي عيونهم قلق.
الحياة صارت سريعة لدرجة أنها تدهس القلوب تحت عجلات الوقت، لم نعد ننتظر شيئا لا قطاراً ولا حباً ولا حتى كوب قهوة.
نُحمّل الصور أكثر مما نحمّل الذاكرة ونشرب المشاعر في أكواب ورقية،لكن هنا على هذا الرصيف الزمن لا يركض. الهواء لا زال يحمل رائحة الخبز البلدي.
والنساء العجائز يروين الأخبار بنفس نبرة جدّتي والمقهى يحتفظ بالدفء في أكواب زجاجية قديمة لم تمسسها “الموضة.
أفكر: لماذا نهرب من الأماكن التي تُشبهنا؟ لماذا نستبدل الطمأنينة بالضجيج، والبساطة بالفوضى، والدفء بالسرعة؟.
أحيانا كل ما نحتاجه لنفهم الحياة هو “قهوة سادة” على رصيف قديم… نهدأ، نسمع، نتأمل… ونفهم أن الذكريات لا تُصنّع بل تعيش حين نبطئ.
قبل أن أغادر نظرت إلى المقعد مرة أخرى وربّتُّ عليه برفق… كأنني أقول لأبي: “أنا جيت… ولو متأخر”.
