بقلم : نرمين عليم باحثة تراثية
الأقمشة التراثية جزءا محوريا في تراث الشعب وتاريخه، وإحدى مقومات التراث الثقافي الإنساني، والهوية القومية للوطن، من هنا تبنت “أذواق” هذا الملف التراثي؛ بهدف دعم الأقمشة التراثية، وتشجيع ادراجها ضمن صناعة الأزياء والمفروشات، ونتابع في هذا المقال ما بدأناه في العدد الماضي.
في بادئ الأمر، يجب أن نذكر أن الأقمشة التراثية ليست منتجا للرفاهية، بل هي منتج ذو هدف وظيفي، وهي ليست نزعة تجميلية بقدر كونها منتجا ذا دلالات طقسية وعقائد شعبية، فنحن حيث نتحدث عن أقمشة المصري القديم، نجد أنه أبدع قماشا لكل مناسبة، واختلفت تصاميمه وقواعد ارتدائه، ومناسبات استخدامه، من مناسبة لأخرى، ومن طقس لأخر؛ وكذلك الوحدات التطريزية وألوان خيوط التطريز، تختلف من مناسبة لأخرى، بل قد تحمل دلالات توضح الحالة الاجتماعية للمرأة، وإذا ما كانت زوجة وأم أو عروس، أو فتاة غير متزوجة، الأمر الذي يؤكد أن الأقمشة والملابس غالباً ما ترتبط برموز وسيمائيات ذات دلالات ثقافية وتراثية، علاوةً على ارتباطها بالبيئة المحيطة بها؛ حيث تستمد منها رموزها وألوانها والقيم الجمالية بها.

الباحثة في التراث نرمين عليم
وتُعد الأقمشة التراثية في جنوب مصر من أهم العناصر التي تعكس ثقافة وتراث المنطقة، ويتم إنتاج الأقمشة التراثية في المحافظات الجنوبية بطرق يدوية تعود لقرون عديدة مضت، وتعكس الأقمشة التراثية في جنوب مصر تراث غني من الأنماط مصنعًا بأيدي حرفيين مهرة، من مواد طبيعية مثل القطن والحرير، ويتم صباغتها بالأصباغ النباتية المستخرجة من زهور وأوراق بعض النباتات، لإعطاء الأقمشة ألوانًا زاهية وطبيعية، فضلاً عن جودتها ومتانتها.
وقماش الملس الصعيدي هو نوع من الأقمشة التراثية التي تنتج في محافظات صعيد مصر وتحديداً في محافظات قنا وسوهاج، ويتميز قماش الملس بإنتاجه من خيوط الحرير الطبيعية عالية الجودة، مما يجعله ناعمًا ومريحاً للارتداء كما يتميز بمتانته وقدرته على التحمل لفترات طويلة من الاستخدام.
ويتم إنتاج قماش الملس من خيوط الحرير الأبيض- لسهولة صباغتها بالألوان الطبيعية-؛ حيث تهيئ الألوان الطبيعية التي تستخدم في صباغة القماش، وتجهز الخيوط ليتم صباغتها في أحواض كبيرة، ثم تترك الخيوط لتجف، وبعد تمام الجفاف، تجهز الخيوط للغزل على الأنوال الخشبية، ويتم شد الخيوط رأسيًا، وتمررخيوط أخرى أفقيًا بواسطة أبر خشبية طويلة ناعمة، بتقنية خاصة لإحداث صفوف طولية من النسيج على أبعاد متساوية، وبعد الانتهاء من المقطع الحريري – حيث لا يباع الملس الصعيدي بالمتر بل بالمقطع- يتم تغطيس القماش في أحواض بها ماء، ثم يلف القماش حول نفسه، ويتم حياكته يدويًا بواسطة أبر معدنية طويلة ناعمة بغرزة الحشو وخيط من النايلون لإحداث الكسرات الموجودة به، ويترك في الشمس حتى يجف تمامًا، فيعاد تغطيسه مرة أخرى في الماء، ويحكم شد الخيوط لتضييق المسافات بين الغرز، ويترك ملفوفًا حول نفسه حتى يجف تمامًا، ثم تزال بعد ذلك الخيوط، ويتم تشطيبه وتنعيمه للحصول على ملمس لطيف وناعم.
ويعتبر قماش الملس تراثا ثقافيا في صعيد مصر؛ حيث يستخدم في صنع الزي التقليدي لدى نساء محافظتي قنا وسوهاج، إلا أنه في السنوات الأخيرة أصبح يشارك في العديد من الأزياء التراثية، كما استخدم في إنتاج قطع من الأثاث والمفروشات ضمن تصميمات الديكور التراثية، كونه ذا جودة ومتانة، بالإضافة إلى نعومة ملمسه، وصبغاته البيئية.
وعلي الجانب الأخر، نجد أن قماش الملس منتج من مادة الحرير، وهي مادة قابلة للتحلل الحيوي؛ لذا فهو منتج من مادة صديقة للبيئة؛ مما يجعل من خواصه التحلل بشكل طبيعي دون ترك أي أثر سلبي على البيئة؛ وبالتالي يقلل من نسب التلوث البيئي.
هذا بالإضافة إلى أن قماش الملس يتميز بمتانته وقدرته على التحمل لفترات طويلة من الاستخدام ؛ وهو ما يعني أن الملابس المصنوعة من نسيجه تدوم لفترة أطول، ويترتب على ذلك، التقليل من الحاجة إلى شراء الملابس بشكل متكرر، ويؤدي ذلك إلى نقص إنتاج النفايات الصادرة عن صناعة الملابس، علاوًة على تميز قماش الملس بصبغاته البيئية؛ مما يجعله يسهم في تخفيض التأثير السلبي لصناعة الألوان على البيئة وعلى الصحة العامة للعاملين في مجال إنتاج الأقمشة.
إن قماش الملس تراث جنوبي منذ قرون عديدة؛ ويعني هذا أنه ليس خامة تظهر لفترة مؤقتة ثم تتلاشى؛ بل هو خامة مستمرة، ويمكن استخدامه علي مر الزمان دون الحاجة إلى التخلص منه، وهو ما يعزز استخدامه في مجال الموضة المستدامة، كونه يؤسس لاستدامة بيئية واقتصادية في صناعة الأزياء.
ويمكن أن يحل قماش الملس محل العديد من الأقمشة الاصطناعية كبديل صديق للبيئة؛ حيث يتميز بتقليله للتلوث وتحلله الحيوي وجودته ومتانته، إلى جانب الدور الهام الذي يقوم به في الحفاظ على التراث الثقافي لصعيد مصر، وترسيخ الثقافة المحلية، وتجسيد الهوية الثقافية، كما أنه يعكس جمالية فريدة ، وحرفية عالية، تجعله على قدم المساواة مع مجموعات الأقمشة الأخرى، بل وتفوق خصائصه تلك المجموعات؛ حيث أن متانته وجودته تجعله مطلوبًا على مستوى البلاد وخارجها.
ونأمل أن يساهم المصممون والمستهلكون في دعم استخدام الأقمشة التراثية، من خلال اختيار الملابس المصنوعة من هذه الأقمشة، ومساندة العلامات التجارية التي تستخدم الأقمشة التراثية والمواد الطبيعية، والخامات القابلة للتحلل في إنتاج الملابس، كون تلك الأقمشة تتميز بجودتها وجمالها، وتعكس تراث وثقافة بيئتها، وتمثل قطع فنية تحمل روح منتجيها، وتجمع بين الأصالة والاستدامة، وهي خطوة مهمة نحو تحقيق صناعة أزياء أكثر استدامة؛ بما يحفظ صحة الحياة على هذا الكوكب.
ولا يزال للموضوع بقية في الأسابيع القادمة