بقلم : نرمين عليم باحثة تراثية
يعد التراث الشعبي جزءا أصيلا فى الحضارة الإنسانية، وأحد جوانب الثقافة الشعبية، وعنصر فعال فى بنائها، والتراث الشعبي له سحره الخاص النابع من تلقائيته وأصالته؛ كونه يمثل روح الشعب ويرتبط بوجدانه وعقائده؛ ويعكس فنون الشعب وأفكاره واحتياجاته على مر الأزمان والعصور؛ لذا تستمر مجلة “أذواق” في متابعة نشر ملف “الأقمشة التراثية” المنتجة بأيد مصرية.
في البداية يجد أن نذكر أن قطع النسيج التراثي تعد بمثابة شواهد حية على تعاقب الحضارات وتطورها، وقد استخدم المصري القديم النسيج في كافة احتياجاته اليومية، وقام بتوظيفه في العديد من الاستخدامات مثل الملابس والمعلقات، وأغطية الفراش والمناشف، ومفارش الموائد والأرضيات، وتشكل خامات القطن والكتان، والحرير والصوف، أشهر الخامات التي استخدمها النساج المصري القديم، وصبغها بالصبغات الطبيعية المستخلصة من النباتات والخضراوات، وبعض الأصداف البحرية والنباتات العشبية.
قد يهمك أيضا قماش الملس .. جماليات فريدة وحرفية عالية (azwaaq.com)
وتمثل صناعة النسيج في مصر أحد التقاليد التي تمتد منذ آلاف السنين، وتعرف بتفردها وتنوعها، وتعد إحدى الحرف المهمة في التاريخ المصري، فهي تعكس تراث مجتمع غني وثقافة متنوعة، وتلقي الضوء على تاريخ عريق وتقاليد قوية، أثرت بشكل كبير على حياة السكان المحليين، وشاركت في اقتصادهم وحملت هويتهم وتراثهم.
وتعد محافظة قنا واحدة من المحافظات الرائدة في مجال إنتاج الأقمشة، وتشتهر المحافظة بقماش “الفركة النقادي “؛ ويحمل الاسم هوية هذا القماش ومركز إنتاجه حيث ينتج في مركز “نقاده ” – محافظة قنا، وقد كان إنتاج “الفركة ” في العصور المصرية القديمة أحد أساليب عقاب المذنب، ثم ما لبث أن تحول إلى حرفة شعبية فاقت شهرتها القطر المصري، وامتدت شهرته إلى العديد من الدول المجاورة.
وانتشار الحرفيين المنتجين لهذا النوع من القماش في بلدة “نقاده”؛ جعلها تشتهر بإنتاجها لقماش “الفركة ” عالي الجودة، الذي يستخدم في إنتاج “الشال ” الرجالي و “الطرحة ” الحريمي، ويعد إنتاجه مصدرًا رئيسيًا للعمل والدخل لكافة أسر “نقاده “؛ حيث لا يكاد يخلو منزل في هذه البلدة من آلة النسج اليدوي “النول “، وهي الآلة المستخدمة منذ عصور المصري القديم، ولا تزال تستخدم بذات الأبعاد والمواصفات؛ لذا تعد حرفة إنتاج قماش “الفركة ” فنًا من فنون إنتاج النسيج اليدوي المتوارث عبر الأجيال.

الباحثة نرمين علام (أذواق)
قد يهمك أيضا القماش المصري يجتاح عالم الموضة والاستدامة (azwaaq.com)
ويتم إنتاج قماش “الفركة ” باستخدام نول “الحفرة ” وهو نول يصنع من الخشب له جزءًا غاطسًا- حوالي نص متر تقريبًا – في عمق الأرض لتثبيته، وتتميز به “نقاده ” عن غيرها من باقي مدن مصر المنتجة للنسيج اليدوي، ويسبق مراحل الإنتاج مرحلة صباغة الخيوط القطنية أو الحريرية البيضاء في قدور من الألومنيوم وتلوينها بالأصباغ الطبيعية ، ثم يتم تجفيف الخيوط ولفها علي هيئة بكرات -تناسب حجم المكاكي المستخدمة في عملية النسج -، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة شد خيوط النول في الأماكن المخصصة للخيوط، وفي النهاية يتم نسج القماش من خلال المكاكي؛ حيث يحتوي كل نول على ثلاث أو أربع مكاكي حسب التصميم المستهدف، ويستغرق إنتاج القطعة الواحدة ثلاثة أيام بواقع سبع ساعات يوميًا.
إن دور قماش “الفركة ” لا يقتصر على تلبية احتياجات المحليين فحسب، بل يشتهر القماش في كافة أنحاء القارة الأفريقية، وخاصة دولة السودان؛ حيث يرتبط في المعتقد الشعبي السوداني بقدرته على جلب الرزق والبركة؛ لذا يعد إحدى القطع الأساسية في جهاز العروس، كما يستخدم في أغطية المواليد، ويتم لف الطفل به في الأيام الأولى من حياته؛ ليجلب له الخير والرزق؛ علاوةٍ على أنه يتمتع بجودة عالية ومتانة، بالإضافة إلى نعومة نسيجه وألوانه الزاهية، وتصاميمه المبهجة، وكان يشكل أكثر من نسبة 10% من صادرات مصر لدولة السودان خلال سبعينيات هذا القرن.
ويحظى قماش “الفركة ” بشهرة وإقبال كبير من السائحين الوافدين إلى جنوب مصر؛ كونه منتجًا يدويًا يعكس التراث المصري؛ لذا يعد من الهدايا والتذكارات التي يحبذ السائحون اقتناءها، وقد طور الحرفيون استخدام قماش “الفركة ” في الوقت الحاضر، وأصبح يدخل في إنتاج الأثواب والجلاليب التراثية، والحقائب وبعض المفروشات، بالإضافة إلى الأوشحة من خلال تصاميم وأشكال جديدة في محاولة لتطوير هذه الحرفة؛ بهدف ضمان بقائها واستمرارها، وحمايتها من الاندثار.
قد يهمك أيضا الفنان العراقي علي أمين الطائي يطلق مجموعته الجديدة من الإكسسوارات التراثية (azwaaq.com)
من هنا يبرز لنا الدور المهم الذي يمكن أن تشارك به الأقمشة التراثية في الإنتاج المستدام، وفي الاتجاهات الحديثة في عالم الأزياء التي تهدف إلى الحفاظ على البيئة والحد من التأثيرات السلبية لصناعة النسيج، نظرًا لاستخدامها مواد طبيعية مثل: القطن والحرير وهي مواد تتحلل بصورة طبيعية؛ مما يجعلها تساهم في تقليل التأثير البيئي، كما أن تقنيات إنتاجها يتم يدويًا؛ لذا فهي لا تعتمد على العمليات الصناعية الضارة بالبيئة، والتي تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء والطاقة، وتضفي متانتها وجودتها عليها طابعًا فريدًا يجعلها قابلة للاستخدام لفترات طويلة؛ وبالتالي تقلل الحاجة إلى الإنتاج المستمر؛ وما يترتب عليه من إهدار للموارد، كما تساهم متانتها في جعلها قابلة للتدوير من خلال منتجات أخرى جديدة؛ مما يقلل من كمية النفايات النسيجية؛ علاوةٍ علي الاحتفاء والاحتفاظ بها كونها جزءًا من التراث المصري؛ مما يحقق استدامتها واستمراريتها.
إن الأقمشة التراثية تعد قطاعًا إنتاجيًا حيويًا يسهم في توفير فرص عمل ويحسن مستوى المعيشة للعديد من الأسر المحلية، ويدعم المجتمع المحلي؛ كما يرسخ الحرف التراثية الوطنية ، ويعزز سمعة مصر كواحدة من البلدان المنتجة للقماش اليدوي في العالم.
ويمكن القول إن إنتاج الأقمشة التراثية قائم على المزج بين الجودة والتقنية والتراث العريق، وهي حل فعال لتلبية احتياجات الموضة المستدامة؛ لذا يجب تطوير هذا القطاع ودعمه؛ بهدف مزيد من الابتكار والإبداع، بما يضمن الاستمرارية والنجاح المستقبلي له حتى يظل هذا الفن حيًا ومزدهرًا للأجيال القادمة.
نعم إن الأقمشة التراثية ليست مجرد قماش بل هي تمتلك ملامح مصرية أصيلة وتحمل جماًلا بصريًا فريدًا، وقصص قديمة وتقاليد، وتعبيرات ثقافية متعددة، وتجسد التراث الغني للمجتمع وتعبر عن الثقافة المصرية المتنوعة العريقة، وهي جزءا مهما من الثقافة المحلية، وسفيرا لموروثنا الشعبي يحمل بين طياته هويتنا الوطنية، ويشكل رمزا حقيقيا للانتماء الوطني؛ فضلاً عن أهميتها الاقتصادية المستدامة.