بقلم : نرمين عليم باحثة تراثية
عين الحسود فيها عود
فلوس في البنك ولا سولار في التانك
لوالشقاوة رتب كان زماني بقيت لواء
بحبك يا سارة حب الاسمنت للشكارة …….. بحبك يا سارة حب النقاش للمحارة
ملك الطرق
الطريق إلى الحرية …… يتحدى الجاذبية
تلك عبارات نشاهدها تتجول في الشوارع، تلفت الأنظار وتبدو كأنها لوحات حية تتحرك في الطرقات، وتدخلك عالم مشوق يعكس تراثًا وثقافة أبناء هذا المجتمع.
إنها الكتابات الشعبية على هياكل المركبات، التي تشكل جزءا من التعبير الثقافي الشعبي وتعكس رؤية أفراد الجماعة الشعبية، وقيمهم وتقاليدهم، وتمثل هويتهم، وتعكس مشاعرهم وأفكارهم، وتلقي الضوء على همومهم وتطلعاتهم.

الباحثة في التراث نرمين عليم ( أذواق)
وتتخذ الكتابات الشعبية أشكالاً متنوعة، بدءًا من الشعر القصير والأقوال المأثورة، مرورا بالأمثال الشعبية والعبارات الشعبية، ووصولاً إلى التعابير الفكاهية، وتمثل الكتابات الشعبية وجدان الجماعة، وعنصراً مهماً في الموروث الثقافي، ورمزًا للهوية الجماعية والترابط الاجتماعي؛ كونها تحمل القيم الشعبية، والمعتقدات الجماعية وتعزز الروح المجتمعية.
قد يهمك أيضا : لماذا استطاع سيد درويش لمس قلوب المصريين ؟ (azwaaq.com)
ويرجع انتشار الكتابات الشعبية إلى العديد من العوامل المختلفة، منها التاريخ والتقاليد، والأعراف الشعبية، وربما ارتبطت بالاحتفالات والمناسبات الخاصة، مثل الأعراس وميلاد الأطفال، أو الاحتفالات الدينية، أو قد تكون تعبيرًا عن الروح الثورية والتضامن المجتمعي في بعض الأوقات.
ويتميز هذا الفن الفطري بقوة مشاعره، وتلقائية تعبيره، فهو يحمل روح الجماعة، ومشاعرها الدقيقة وسماتها الأصيلة، أنه شفرة البسطاء، تلك الشفرة المتحركة، الشفرة الشعبية، المحملة بعبق التراث الشعبي في واحد من إبداعات الجماعة بنقائها وصدق إحساسها.
وتحمل الجداريات المتحركة وجدان مالك المركبة، ويشاركه فيها الفنان الشعبي منفذ العمل، وربما المارة والجالسون حوله أيضًا؛ وقد لاحظت كاتبه المقال إن هناك كثيرًا من الأفراد يتكسبون من الجلوس بجوار الفنان الشعبي الذي يكتب هذه العبارات على هياكل أو زجاج المركبات الخاصة سواء ناقلات الأفراد أو ناقلات البضائع، ويتقاضون بضعة جنيهات أو يكتفون بدفع ثمن المشروبات التي تناولوها في المقهى، مقابل بعض الكلمات الإبداعية التلقائية التي يتلقفها الفنان الشعبي ويصيغها بدوره على هياكل المركبات، وقد يضيف لها أو يحذف منها بضع كلمات لتتناسب مع الهدف من العبارة.
وفي واقع الأمر فإن تلك الكتابات الشعبية تحمل مشاعر العامة من أبناء هذا الشعب، ومعاناتهم الدفينة، وأفراحهم، وأحلامهم الضائعة في خضم الحياه الواقعية، من خلال متحف مفتوح ومتحرك يراه العامة على اختلاف ثقافتهم، وتُعد تلك الكتابات أسلوبًا ابتكرته الجماعة الشعبية كوسيلة للتعبير عن رأيها فيما حولها.
قد يهمك أيضا : قماش الملس .. جماليات فريدة وحرفية عالية (azwaaq.com)
وهي هواية عند البعض، ووسيلة للتعبير الفني عن الآراء السياسية أو الاجتماعية عند البعض الآخر، ويُعتبر الرسم والكتابة على الهياكل تحفة فنية متنقلة تعكس الإبداع والتفرد، وتتناول العبارات مواضيع مختلفة مثل الحقوق الإنسانية، العدالة الاجتماعية، والأزمات السياسية المحلية.
وتجمع تلك الكتابات بين العمل الفني من حيث الإيقاع والتوافق والتقابل في كثير من الأحيان والتماثل والتوازن الممزوج بتلقائية، وفطرية، وإذا ما استعرضنا تلك العبارات نجدها قد تحمل معتقدا دينيا مثل: الحولقة “لا حول ولا قوه إلا بالله “، أو بهدف ترفيهي أو فكاهي مثل: “الله يحميك من الميكانيكي”، أو بغرض طقسي مثل: “عين الحسود فيها عود”، أو بمعنى اجتماعي مثل: “أريد زوجه” أو “عاطل يا ناس”، أو أسلوبًا أدبياً مثل: بعض الحكم أو أبيات الشعر “الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم” وأحيانًا ما تحمل هذه الكلمات تعبيرات تخص مالك تلك المركبة مثل: “احنا التوب والباقي كنتالوب”.
إن تلك العبارات ما هي إلا هوية ثقافية تحمل بداخلها الثقافة الشعبية للمجتمع، وهي ليست كلمات عشوائية بل هي علاقات وتوجهات تعكس بقوة خبرات وتجارب وأذواق أفراد هذا الشعب، وعقيدته وانتمائه، وثقافته ورؤيته للأمور.
ولا شك في أن المرأة تحتل مكانة مهمة في التراث الثقافي؛ لذا فمن المنطقي أن يكون لها نصيب كبير من تلك العبارات التي يكتبها ملاك السيارات على مركباتهم مثل “وراء كل مديون إمرأه” أو “والنبي اقعدي في البيت وأنا أجيب لك من الإبرة للزيت” أو: “أمي وأختي هما حظي وبختي” أو”اللي أمه بتدعي له أحسن من اللي أمه بتدي له”، أو “أمي لحد آخر يوم في عمري”.
إننا أمام هذه العبارات ندرك أن البساطة والتلقائية هي أحد مظاهر هذا الفن الإبداعي، وتلك الشفرة الفنية الناتجة عن فطرة أولية ينشأ من خلالها عمل فني بلا قواعد فرضت عليه أو تدخلات تفسد تلقائية فنانيه الشعبيين.
وإذا ما بحثنا وراء ذلك الفن لوجدنا كما هائلاً من العبارات والمصطلحات نبعت من عادات ومعتقدات الجماعة الشعبية التي عاشت وتشبعت بكل ما هو بسيط وحقيقي؛ بل إن دراسة هذا الفن، تعد دراسة اجتماعية أنثروبولوجية تحلل المتغيرات الاقتصادية، والاجتماعية التي مرت على مجتمعنا، وتفسر قيمًا نفسية واجتماعية، تحمل هوية وموروث هذا الشعب؛ وتربط بين ثقافته وركائز الحقيقية، وقد تكون وسيلة للتعبير عن أفراحه وأحزانه في بعض الأحيان.
إن الكتابات الشعبية على هياكل السيارات تمثل تواصلاً بصريًا ولغويًا مع المجتمع المحلي والعالم بأسره، وتعكس التعددية الثقافية والتفرد البصري لكل فرد داخل المجتمع، وتُعد أعمال الفنان الشعبي على جدران المركبات إلهام نبع من وجدان الجماعة الشعبية، وموروث شعبي مهم يعكس تراث وثقافة الشعب؛ حيث تحمل هذه الكتابات، التعبيرات والرموز المتعلقة بالحياة اليومية والقيم الاجتماعية والتقاليد والعادات، وتعتبر هذه الكتابات والتعبيرات جزءًا من هوية الجماعات الشعبية ترسخ الأصالة الجمعية، وتدعم المجموعة.
قد يهمك أيضا : أيمن برويز يعيد إحياء التراث المصري بالزجاج المعشق (azwaaq.com)
وفي واقع الأمر، يعود فن الكتابة على هياكل المركبات حوار دائم متحرك ينتقل من مكان لآخر، يحمل في مكنونة حكمه الشعب وأفكاره وإبداعاته وهو وأن كان يقوم على النشاط الإبداعي الفطري إلا أنه نشاط تضامني وليس فرديًا فهو يعمل على شحن موهبة الفنان المنفذ للعمل تضامنا# مع مالك المركبة بدافع ذاتي للتعبير عن مشاعره ورؤيته لما حوله دون التقيد بمنهج أكاديمي أو علمي؛ بل يعتمد على التجربة الفردية والتعبير الذاتي؛ لذا فهو نتاج تجارب حياتية يلعب فيها الموروث الشعبي دورا مهما، بالإضافة إلى ظروف البيئة والمجتمع، وهو فن شعبي له أسلوبه المتميز المليء بالرموز والدلالات والموروثات، ويُعد جزءًا من تعبير الجماعة الشعبية عن أحاسيسها، صادرًا من وجدانها، تملكه مشاعر الجماعة وتتغلغل في صميم مفرداته بما له من وقع نفسي تلقائي، منبثق من ظروف حياة تلك الجماعة، ومشكلاتها، ابتكره البسطاء ليكن أسلوب للتعبير عن بعض المواقف والقضايا التي تشغلهم، والتحديات التي تواجههم بتلقائية، تستخدم السخرية تارة، والحزن تارة أخرى في قالب فني يصل إلى الأعماق بنقد عميق معبر عن هموم وأفراح وكفاح البسطاء من أفراد هذا الشعب فهو لغتهم الصامتة المتحركة عبر الازقة والطرقات تحمل بين جوانبها شفرة خاصة جدًا لا يستطيع فك رموزها إلا مبدعيها، أنها شفرة البسطاء.