بقلم : د. محمد فتحي عبد العال باحث وروائي مصري
السعي لكشف المظالم كان من شيم صحافة زمان، ومن أمثلة القصص التي نالت حظها من التسليط الإعلامي الكبير قضية الطبيب (علي عبد السلام) الذي تخرج عام 1928م والتحق بالعمل في وزارة الصحة “طبيبا للانكلستوما” براتب خمسة عشر جنيهاً شهرياً، ومع اجتهاده تم نقله كمعيد بقسم البكتريولوجي ثم كان قاب قوسين أو أدنى من أن يسافر في بعثة للخارج.
لكنها ذهبت إلى زميل أخر ولم يفت ذلك في عضد صاحبنا ، فاستكمل مشواره في الدراسات العليا وحصل على دبلومة طب المناطق الحارة، وتتكرر القضية مرة أخرى مع بعثة أخرى تذهب لغيره فعاد لمواصلة دراسته العليا، وحصل على دبلومة جديدة في الصحة العامة واعتزل الناس، وعمل بمعمل صغير كطالب أبحاث دون أجر.

الدكتور علي عبد السلام ( خاص أذواق)
وفي عام 1936م آتاه ما تمنى إذ تقرر إيفاده في بعثة لمدة ثلاث سنوات إلى جامعة كامبريدج لنيل الدكتوراة في البكتريولوجيا، كما حصل على ترقية للدرجة الخامسة بضعف راتبه الأول، وابتسمت له الحياة أخيرا ..سافر الباحث ومرعامان وكانت الجامعة تثني على عمله، كما اختاره الدكتور إيان فلمينج مكتشف البنسلين معاونا له في عدد من الأبحاث(بحسب روايته).
وفجأة يأتيه خطاب من القاهرة بأن الترقية ألغيت، وأن مرتبه عاد خمسة عشر جنيها، فأرسل لإدارة البعثات يطلب إما إعادة الترقية، أو إعفائه من البعثة، فوعدته الإدارة بتسوية الأمر مع المالية، أما “هو فعليه تكريس جهده لدراسته”.
رغم ذلك استمر جهاد صاحبنا ونال الدكتوراة أخيرا، وعاد إلى القاهرة وهناك اكتشف أن الموضوع لم يحل، وأن مرتبه نقص خمسة عشر جنيها فرق الترقية الملغاة!، وأن إدارة البعثات لم تتصل بالمالية؛ فانقطع عن العمل تحت وطأة حالته النفسية السيئة، حتى يتم حل مشكلته ففصلته كلية الطب، ورفضت طلبه تشكيل مجلس تحقيق للنظر في فصله .
وبناءً على ذلك خطابا لوزير المعارف محمود فهمي النقراشي؛ يطلب إنصافه مهددا إياه بالقتل !!؛ فأحال النقراشي الخطاب للنائب العام؛ لبحث جدية التهديد، فكان رد النائب العام :”أنه مظلوم حقا”؛ فوعد النقراشي بتسوية حالته.
وحينما بدأ الوزير يفحص المسألة كان التغيير الوزاري قد حل مع حادث 4 فبراير 1942 م، ورحل الوزير وأتت حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا؛ فأرسل صاحبنا إليه يطلب الإنصاف عبر ثلاث شكاوي متتالية فلما لم تأت بنتيجة أرسل الرابعة تتضمن تهديدا له بضربه بالرصاص !! فكان النحاس أكثر تشددا تجاه الخطاب؛ فأحال الأمر إلى الطب الشرعي بدلا# من وزراة المعارف، وقبض على الباحث، ووضع تحت ملاحظة طبيب البوليس بمحافظة مصر “رشيد كرم”، والذي أوصى بإيداعه مستشفى الأمراض العقلية؛ حيث جاء في توصيفه للحالة أن الباحث “مختل الشعور”، ويشعرأنه مغبون من رؤسائه والوزراء؛ لأنهم لا ينصفونه ولا يسمحون له بمقابلتهم والأوفق له “أن يرسل إلى مستشفى العباسية الأميري”.
وبالفعل دخل المستشفى تحت رقم ؛ 6733 ليقضى هناك عشر سنوات من عمره في الفترة من 1942 وحتى عام 1951م، كما جاء تقرير ملاحظة مدير المستشفى عن حالته، ليوصى باستمرار حجزه مستندا أنه “لا زال ينتقد النظم الحالية، ويسعى لتغييرها، وأنهم أهملوا مشروعاته التي تنفع البلد والعالم أجمع، وأنه ومكتشف البنسلين في مستوى واحد، متهما الرؤساء المصريين أنهم بطالين، وأن المالية رفضت ترقيته؛ لأنه ليس من المحاسيب”.
وبشكل عام يميل للعزلة وكثير التدخل فيما لا يعنيه والواضح أن تشخيصه داخل المستشفى كان ” البارانويا”، وهومرض نفسي يجعل صاحبه في شعور دائم بخداع الآخرين له، وارتياب من محاولات الإيقاع به واضطهاده، وتستولي على نفسه أحاسيس مضطربة من شعور متزايد بتقدير الذات والتوجس الشديد من إعطاء الناس أي معلومات عنه خشية استخدامها في إيذائه.
الطريف أن الدكتور “علي” كتب أثناء تواجده بالمستشفى دراسة عن “عيوب قانون الحجز الجبرى” لمصابي الأمراض العقلية، نشرت بمجلة “المحاماة”، ولاقت استحسانا إلى حد وصفها بالرصينة، وكان لها أبلغ الأثر في تعضيد موقف أسرته التي سعت عام 1951 م ومحاميها الأستاذ الظاهر حسن أحمد أمام مجلس الدولة؛ لندب خبراء من الأطباء العالميين؛ لفحص حالته وجاء تقرير الخبير الأجنبي أن حالته ليست بارانويا، أو جنون وذلك بحسب ما جاء في العدد894 آخر ساعة 12 ديسمبر 1951م ..
طبعا تجربة الدكتور “علي” كانت فريدة في تفاصيلها وحقل خصب للصحافة المصرية؛ لتقترب من حياة المجانين والذين يقدرعددهم في هذه الفترة بنحو 5 آلاف شخص من الجنسين؛ فتحدث عن تقمصهم لشخصيات تاريخية مثل: “ملك الملوك وهارون الرشيد، وسيف بن زي يزن والمهدي المنتظر”ومهن مختلفة مثل:” الشاعر والموسيقي والفنان والطبيب و الصحفي”، وأن بين كل مائة نزيل خمسة عقلاء، أما الباقون فهم خليط من المرضى متعددي الأعراض والواجب علاجهم ..
وللأسف الصور التي نقلها تحولت للون من ألوان الكوميديا في السينما المصرية، بدلا ًمن التوغل لسبر أغوار النفس البشرية، وبحث أسباب اضطرابها وأشكال الأمراض النفسية، وطرق التعامل مع المرضى النفسيين وعدم النفورمنهم، والعمل على دمجهم داخل المجتمع على حسب حالاتهم ودرجة تعافيهم .
من كتاب “هوامش على دفتر أحوال مصر”

د. محمد فتحي عبد العال باحث وروائي مصري

غلاف الكتاب ( خاص أذواق)