في كل بيت عربي تقريباً كانت ثقافة العيب سائدة، تتبعها الأسرة، وتحرص على نقلها للأبناء، وتعنفهم عند الخروج عن الأصول .
كنت تسمع هذا النداء دوماً : “عيب تقول كده! ، “الناس هتقول إيه؟”، أو “مايصحش تعمل أو تقول كده!”.
كان ذلك يمثل جملاً قصيرة، لكنها كانت تشكّل ملامح الطفولة، وتحدد سلوك المراهقين، وتضع خطوطاً حمراء يصعب تجاوزها.
إنها “ثقافة العيب” تلك المنظومة غير المكتوبة من القواعد الإجتماعية التي تربى عليها جيل بعد جيل، حتى أصبحت أداة تربوية تُغني عن القوانين في كثير من الأحيان.
لكن السؤال اليوم: هل ما زالت هذه الثقافة تربي الأجيال؟ وهل ما زال “العيب” هو الكابح الحقيقي لسلوكيات الانحراف والانفلات؟.
إقرأ أيضاً للكاتب : قهوة سادة على رصيف الذكريات
كيف تغير العيب ؟
الحقيقة أن “ثقافة العيب” قد تعرضت في العقدين الأخيرين لهزة كبيرة، وتراجع لافت للأسف.
ولم يكن ذلك لأن هذه الثقافة فشلت في تحقيق أهدافها التربوية، ولكن لأن الواقع تغيّر بسرعة أكبر مما استطاعت هذه الثقافة أن تواكبه.
جيل اليوم لا ينظر إلى العيب كما كان ينظر إليه آباؤه وأجداده، لا لأنه جيل فاسد كما يزعم البعض!.
بل كان ذلك؛ لأنه جيل يعيش في زمن مختلف تماماً محاط بثقافات متعددة، ومخاطباً بمنطق “الحريّة الشخصية”، و”أنا حر ما لم أؤذِ أحداً”.
“. في السابق كان “العيب” مرادفاً للأخلاق، ما لا يليق يُقال عنه “عيب”، ما يهين الكبار ما يُخالف قواعد المجتمع ما يُحرج العائلة، حتى ما يُخالف الذوق العام.
لم تكن هناك حاجة إلى شرح طويل يكفي أن تهمس الأم في أذن طفلها بكلمة واحدة: “عيب!”، فينضبط السلوك فوراً.
أما اليوم فكلمة “عيب” قد تحتاج إلى عشرات الشروحات، وغالباً ما تُقابل بسؤال جريء: “ليه؟ مين قال إنه عيب؟”!!.
إقرأ أيضاً للكاتب : موضوع عائلي 3 … متعة اللحظات البسيطة مع من نحب
ثقافة العيب والإحساس الجمعي
الفرق الجوهري أن “ثقافة العيب” لم تكن قائمة على قواعد مكتوبة، أو معايير واضحة، بل على الإحساس الجمعي والمراقبة المجتمعية.
وهذا ما يجعل هذه الثقافة تنهار تدريجياً في عصر “الفردانية”، والتفكك الاجتماعي؛ حيث لم يعد أحد يهتم بما يراه الآخرون.
والأكثر من ذلك والأخطر أنه لم يخجل كثيرون من إعلان إرتكاب العيب، بل يتباهى به البعض الآخر كنوع من الحرية أو العصرية.
وأصبح حتى ما كان يخفى قديماً على الملأ، و المشكلة أن الكثيرين يقلدونه من نفس المنطلق .
لقد تغير الإطار الحاكم، وتفككت المرجعية الأخلاقية، ولم ننجح بعد في إيجاد بديل واضح ومقنع.
عندما كان “العيب” مدرسة غير رسمية
لكن هذا لا يعني أن ثقافة العيب بلا قيمة، على العكس كانت تربي على الحياء.
وتُنتج تلك الثقافة مواطنين يحسبون ألف حساب لأفعالهم؛ لأنها تنعكس على أسرهم ومجتمعهم.
فكانت ثقافة العيب تحمي الفتاة من الإنجراف وراء العلاقات الرخيصة، وتُشعر الشاب بأن الكلمة مسؤولية، وأن السلوك ليس مجرد “حرية شخصية” بل “واجب اجتماعي”.
كان “العيب” مدرسة غير رسمية بحق لتعليم الذوق والاحترام والتواضع.
إقرأ أيضاً للكاتب : من وحي كتاب “إنجح من أجل نفسك”:ما هي أسرارالنجاح ؟
كيف تغيرت ثقافة العيب ؟
المشكلة ليست في العيب ذاته بل في كيفية استخدامه، فقد تحوّلت “ثقافة العيب” أحياناً إلى سلاح قمعي.
و قد تغير مفهوم هذه الثقافة لدى بعض الأسر، والمجتمعات، أصبحت تكبت الفتيات، وتمنع الشباب من التعبير، وتعطل النقاشات الصحية.
بل تفرض ثقافة العيب الصمت على قضايا مصيرية مثل التحرش، والعنف الأسري، والإضطرابات النفسية، وذلك تحت شعار “عيب نتكلم”.
سكت المجتمع طويلاً عن أمراض خطيرة، وظلت الجروح تنزف في الخفاء.
من هنا فإن السؤال الحقيقي اليوم ليس: “هل ما زالت ثقافة العيب تربي الأجيال؟”، بل: “أي عيب نريد أن نُورّثه لهم!”!.
هل نريد عيبا يُربّي على الاحترام والحياء والمسؤولية؟ أم عيبا يُغلق الأبواب ويمنع السؤال والنقد والتغيير؟.
بين “العيب المفيد” و”العيب المميت”
بين “العيب المفيد” و”العيب المميت” شعرة والشطارة في التربية أن نعرف كيف نستخدم هذه الكلمة ومتى نُعيد تعريفها.
جيل اليوم لا يحتاج إلى منظومة تُخجله بل إلى منظومة تُفهمه، لا يحتاج إلى “إسكت.. عيب!”، بل إلى “إفهم لماذا هذا لا يليق!”.
الفرق بسيط لكنه يصنع فرقاً كبيراً بين جيل يخاف من الخطأ، لأنه يُخجل؛ وجيل يتجنبه؛ لأنه يفهم أنه خطأ. نعم، ثقافة العيب يمكن أن تظل رافداً تربوياً مهما ، لكن بشرط أن نُعيد تشكيلها على أسس تربوية حقيقية وجديدة تلائم العصر.
لقد بات من المهم أن نفصل بينها وبين ثقافة القمع والصمت.
فلنعلم أبناءنا أن العيب ليس ما يُقال عنه ” لاتفعل” أو “لاتقل” في المطلق، بل ما يُؤذي الآخرين ويفسد القيم ويهدم الأخلاق. فحين نُعيد المعنى نُعيد الهيبة لهذه الثقافة .