(1)
“السَّعَادَةُ” مَا أَجْمَلَهَا مِنْ كَلِمَةٍ، وَمَا أَرْوَعَ وَقْعَـهَا عَلَى النُّفُوسِ، مَنْ نَالَ حَظَّهُ مِنْهَا نَسِيَ كُلَّ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، بَلِ اسْتَلَذَّ بِهِمَا لأَنَّ وَرَاءَهُمَا شُعُوراً جَمِيلاً يَسْتَوْلِي طَلَبُهُ بِنَهَـمٍ عَلَى أَفْئِدَتِنَا، وَيَطْغَى عَـلَى أَفْكَارِنَا وَخَوَاطِرِنَا، فَالإِنْسَانُ دَوْماً يَبْحَثُ عَنْ تِلْكَ البَهْجَةِ المُشْرِقَةِ، وَالدَّوَاءِ النَّاجِعِ الذِي يُسَمَّى “السَّعَادَةُ”، وَيَحْلُمُ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، لَكِنَّهُ يَنْسَى غَالِباً أَنَّ “السَّعَادَةَ” مِنْ صُنْعِ يَـدَيْهِ، وَلَـنْ يَمْنَحَـهَا لَهُ أَحَدٌ كَمَا يُمْنَـحُ أَيُّ شَيْءٍ آخَـرَ؛ لأَنَّهَا تَنْبُعُ بِالأَسَـاسِ مِنْ ذَوَاتِـنَا، وَمِنْ رُؤْيَتِنَا لِلْكَـوْنِ وَالنَّاسِ وَالأَشْيَــاءِ مِنْ حَـوْلِنَا، فَإِدْرَاكُنَا لِكُـلِّ تِلْكَ الأُمُـورِ إِمّـَا أَنْ يَجْعَلَنَا سُعَـدَاءَ مُسْتَبْشِرِينَ، أَوْ لاَ، فَالسَّعَـادَةُ سَكِينَةُ النَّفْـسِ وَطُمَأْنِينَتُهَا، وَنَقَاءُ السّـَرِيرَةِ وَرَوْعَتُهَا، وَطُهْـرُ القُلُـوبِ وَنُبْلُهَا، وَتَمَنِّي الخَيْرِ لِلنّاسِ، وَتَحَرِّي الإِخْـلاَصِ وَالصِّـدْقِ فِي القَـوْلِ وَالعَمَلِ، وَمُشَارَكَةِ النَّاسِ فِي أَفْرَاحِهِمْ وَأَحْزَانِهِمْ، وَكُلِّ شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ.
(2)
يَقُولُ المُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ: “مَنْ أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافَىً فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا”، (أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عبيد الله بن محصن دون قوله “بحذافيرها”، قال الترمذي: حسن غريب). فَالأَمْنُ وَالأَمَانُ فِي الوَطَنِ، وَالصِّحَّةُ فِي الجَسَدِ، وَكِفَايَةُ القُوتِ مِنَ أَعْظَمِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَا قِيمَةُ المَالِ وَالجَاهِ فِي غِيَابِ الأَمْنِ وَالصِّحَّةِ وَلُقْمَةِ العَيْشِ؟، فَالسَّعَادَةُ الحَقِيقِيَّةُ أَنْفَسُ مِنْ أَنْ تُشْتَرَى بِالمَالِ، وَأَسْمَى مِنْ أَنْ تُمْتَلَكَ بِجَاهٍ أَوْ سُلْطَانٍ، وَأَعَزُّ مِنْ أَنْ تُنَالَ بِتَشْيِيدِ القُصُورِ، وَامْتِلاَكِ نِعِيمِ الدُّنْيَا الفَانِي، قَالَ تَعَالَى: “مَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أَنثَى وَهْوَ مُؤْمِـنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُـمْ أَجْـرَهُمْ بِأَحْسَـنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”. {سُـورَةُ النَّحْلِ: الآية 97}.
قد يهمك أيضا : العـامُ الجديدُ ومعــاني الاحتفـاء و التكريم (azwaaq.com)
(3)
وصية عبد الله بن شداد لابنه
عبد الله بن شداد هو رجل من رجالات العراق، وكان من ذوي المكانة عند الحجاج بن يوسف الثقفي، ثم خرج عليه مع ابن الأشعث، ويقال: أنه وافته المنية سنة 83 للهجرة. عندما حضرته الوفاة دعا ابنا له اسمه محمدا، وقال له: يا بني إني أرى داعي الموت لا يقلع، ومن مضى لا يرجع، ومن بقي فإنه ينزع، وإني موصيك بوصية فاحفظها، عليك بتقوى الله العظيم، وليكن أولى الأمور بك شكر الله، وحسن النية في السر والعلانية، فإن الشكور يزداد، والتقوى خير زاد، وكن كما قال الحطيئة:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد
ومـــــا لابد أن يـــأتي قـــريب ولكن الذي يمضي بعيد
ثم قال: أي بني، لا تزهدن في معروف، فإن الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب، على الشاهد والغائب، فكم من راغب قد كان مرغوبا إليه، وطلب أصبح مطلوبا ما لديه، واعلم أن الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان ير الهوان… أي بني: وإن سمعت كلمة من حاسد، فكن كأنك لست بالشاهد، فإنك إن أمضيتها حيالها رجع الغيب على من قالها. وكان يقال: الأريب العاقل هو الفطن المتغافل. وكن كمــــا قــال حــــاتم الطـــائي:
وما من شيمتي شتم ابن عمي وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حــاســد في غير جـــرم سمعتُ فقلتُ مُــرِّي فـــانفُــذيني
فعــابــوهــا علي ولــم تســـؤني ولم يعـــرق لهـــا يــومــــا جبــيـني
وذو اللونين يلقاني طليقا وليـــــس إذا تغــيـــب يـــــــأتليــني
ثم قال: أي بني، لا تؤاخ امــــرأ حتى تعاشره، وتتفقد موارده ومصادره، فإذا استطعت العشرة، وضيت الخبرة، فأخه على إقالة العثرة، والمواساة في العسرة، وكن كما قال المقنع الكندي:
ابل الرجال إذا أردت إخـــــــــاءهــم وتـوسمـــن فعـــــالهــــم وتفـقــــــــــد
فـإذا ظفـــرت بــذي اللبـــابة والتقى فيه اليدين قرير عـين فاشـــدد
وإذا رأيــــــت و لا محـــــالة زلـــــة فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
(4)
قد يهمك أيضا : اختـلافُ الأذواق والتنـوُّعُ الإنسـانيُّ (azwaaq.com)
يعتبر برتراند راسل (1872-1970) من أشهر فلاسفة العالم في القرن العشرين، إذ قدم كثيرا من المساهمات للفكر الإنساني بشكل عام، وقد عاش راسل قرنا كاملا أو كاد، وهذه الحقيقة الرقمية يمكن أن تفسر لنا الكثير عن هذا الفيلسوف، وآرائه وتحولاته، حيث أنها كانت في واقع الأمر نتيجة طبيعية لتلك الحياة النادرة في طولها. لقد بدأ راسل حياته في النصف الثاني من العصر الفكتوري الإنجليزي، في وقت كانت فيه الإمبراطورية البريطانية في أوج مجدها، حيث ولد في عائلة أرستقراطية إنجليزية كبيرة، ونشأ يتيم الأب والأم، ورغم ذلك واصل دراسته حتى دخل عام 1890 إلى جامعة كامبردج لدراسة الرياضيات والعلوم الإنسانية، وتصدر جيله كواحد من كبار الفلاسفة، حيث كان أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية المضادة لفلسفة هيجل. كان راسل يدافع بقوة عن السلام، ويعادي الحرب والنزاعات العسكرية، في وقت كانت فيه بلده متورطة في تلك الحرب بكل ما تملك من طاقات. ألف راسل العديد من الكتب منها على سبيل المثال: “السعادة: 86 طريقة ذهبية ترشدك إلى طريق السعادة”، وهو من الكتب الرائعة، التي يقدم فيها هذا الفيلسوف خلاصة تجاربه وخبراته عن السعادة، هدف الحياة الأبدي والدائم، وعبر فصول الكتاب نتجول في بساتين السعادة اليانعة، ومنها: الكفاح من أجل النجاح لا الحياة، ونصف خطايا البشر تنشأ من خوف الملل، والحسدة والغيرة داء في الكبار والصغار، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، والمال ليس كل شيء، ومن أقواله في الكتاب: “لو تتبعنا متاعب أكثر متاعب الحياة في العصر الحاضر لوجدنا أن منشأها الإسراف في المنافسة والجري وراء النجاح، كما لو كان هو المورد الرئيسي للسعادة، ولست أنكر أنه ييسر الاستمتاع بالحياة، ولكني أعتقد أنه يخلق العكس إذا تجاوز ذلك الحد”، ويعلمنا راسل أن العطاء والانشغال بالناس يلهم الإنسان ألوانا من النشاط والسعادة، كما أن تحديد الأهداف والرغبة في السعادة ضرورية للسعادة، وكان راسل يعتقد أن الحصول على السعادة مستحيل، ولكن بعد التأمل والأسفار، غير فكرته، ورأى أن السعادة ممكنة الحصول، من خلال أداء الإنسان لعمله، واستمتاعه به، كذاك الرجل الذي عرفه وهو صبي، وكان يشعر بالسعادة، مع أنه يعمل في حفر الآبار، وبالتالي كانت سعادته تعتمد على قوته الجسدية في العمل، وهكذا فالسعادة تنبع من ذواتنا. و بعد تلك الحياة الحافلة بالإنجازات توفي راسل عام 1970، وهو يمسك بين يديه كتابا، وبذلك طويت صفحة قرن كامل من الكفاح الفكري والعملي الذي ما تزال تذكره البشريـة.