بقلم : الدكتورمحمد فتحي عبد العال
“المستريح ” صار مصطلح مصري يشير إلى الشخص الذي يتمتع بالمال و”مستريح” من مشكلات الحياة، وهويشيركذلك للأسف الشديد إلى ظاهرة “المستريح “التي تنتشر في ربوع مصر، والمقصود منها هنا الشخص الذي يجلس على مقعد وثير، ويمارس النصب على الطامحين إلى الثراء السريع من دون جهد منهم.
وهو يخاطب بذلك أكبر حافز يحرك النفس في عجالة، ودون تفكير ألا وهو جني المال الذي قد يعمي الأبصار للوهلة الأولى؛ فتنطلق الأموال من جيوب البسطاء والمتعلمين أيضاً لتتجمع في جعبة “المستريح ” والذي يعلن عن نسب أرباح هائلة يسيل لها اللعاب، ثم سرعان ما يتبخر بالمال الوفير الذي جمعه ويذوق الناس وبال أمرهم بحثاً عن أموالهم الضائعة .
وفي السطور التالية تتناول أذواق https://azwaaq.com/ كل شيء عن معنى المستريح، و من هو في الزمن الجميل، وما هو مصيره، وكيف أنِا بنكا وطنيا؟!، و هل أعاد للناس أموالها؟ وتجذر ظاهرة المستريح في مصر!.
المستريح ظاهرة قديمة جداً
يظن البعض أن هذه الظاهرة قد تولدت في مصر مع شركات توظيف الأموال في السبعينات والثمانينات، لكن الحقيقة التي يكشفها لنا التنقيب في أرشيف الصحافة المصرية الزاخر، أن هذه الظاهرة لها من العديد من الوقائع في الماضي، ولا يمكن أن نؤصل لها بأنها نهج حداثي دخل عالم الجريمة متأخراً في القرن المنصرم.
كما أن هذه الظاهرة لا سقف لها وقد تطورت بشكل كبير، وأخذت صورا عصرية أشد خطورة ونجحت في استقطاب شرائح مجتمعية، لم يكن في الحسبان ولا المخيلة أن تقع في شراكها، وهم من صفوة المتعلمين ورجال الأعمال، ومن هذه الصور العصرية النصب عبر العملات الرقمية، والتجارة فيها عبر تطبيقات إحتيالية تمارس النصب على نطاق واسع .
المستريح و ذاكرة الصحافة المصرية
نعود إلى ذاكرة الصحافة المصرية، وندلف إلى واحدة من أغرب صور النصب المبكر، باسم “الإستثمار البنكي”، والطريف أنها جاءت في توقيت متزامن مع أول تجربة اقتصادية مصرية حقيقية واعدة تتوق إلى التحررمن السيطرة الأجنبية على القطاع المصرفي في مصر .
حكاية شيخ المحتالين حسين شريف
وهل نغادر مبحثنا دون أن نعرج على شيخ المحتالين “حسين شريف”؟!، والذي بدأ حياته موظفاً فى “البنك الزراعى المصرى” بالشرقية مشهوداً عنه النزاهة والإستقامة وموضع ثقة مديريه، ولما إنطلت عليهم هذه السمات المزيفة، أوكلوا إليه مهمة نقل مبلغ حوالي ألفين جنيه، أو يزيد وهو مبلغ كبير في هذا التوقيت (1906م ) في مأمورية رسمية، بلا شك المبلغ المالي كبير، ويحقق له حلم السفر للخارج، هذا ما لاح في ذهنه وزينه له الشيطان، فسافر إلى فرنسا وإنقطعت أخباره… هنا تقدم البنك ببلاغ يتهمه بالإختلاس، وحكمت عليه محكمة ههيا الأهلية يوم 16 يناير(كانون الثاني) سنة 1906 م بالسجن ستة أشهر .
حسين شريف أمير ملوي ونصاب في فرنسا !
تزوج حسين شريف من فرنسية، وإدعى لنفسه لقب “كونت دي ملوى” أي “أمير ملوي”، وهي إحدى مدن المنيا (جنوب مصر)، كواحد من الوجهاء المصريين والعائلات الكبيرة، هذه الخطوات جعلته على مقربة من الأوساط المالية الفرنسية، وجعلته يحصل على أموال كثيرة من البيوت المالية الفرنسية، غير أنه سرعان ما امتنع عن السداد، وفر إلى “روما “قبل أن تقبض عليه الشرطة الفرنسية مع كثرة البلاغات المقدمة ضده
فرار المستريح حسين شريف إلى روما
وفي “روما” سكن في أرقى الأحياء، واستطاع بلباقته الإنخراط داخل صفوة المجتمع الراقي هناك ..ثم قرر أن يحصل على الدكتوراة؛ تمهيداً للعودة إلى مصر والإستقرار بها، وبالفعل استطاع أن يحصل على الدكتوراة في الحقوق بالإحتيال والتزوير من إحدى جامعات روما مع كونه غير حاصل على درجة الليسانس من الأساس كما أحاط شهادته بسياج من الرسمية؛ فجعلها ممهورة بخاتم القنصلية المصرية في روما عام 1925 .
عودة المستريح الدكتور حسين شريف إلى مصر
المهم عاد إلى مصر مجدداً باسم “الدكتور حسين شريف، ” وقيد اسمه بجدول المحامين لدى المحاكم المختلطة وقرر أن يمارس النصب على مستوى عال، فاستغل فرصة الدعوات الرامية إلى التوسع في البنوك الوطنية لمواجهة النفوذ المالي الأجنبي في البلاد، وكان من نتاجها إنشاء بنك مصر في 13 أبريل 1920م بجهود الاقتصادي الكبير محمد طلعت حرب .
المستريح يأسساً بنكاً وهمياً

فسار المستريح في نفس الركب، وأعلن عن إنشائه “البنك المصرى العام”، ولما كان “بنك مصر” قد تأسس برأس مال قدره ثمانون ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم في ضلك الوقت؛ فقد أعلن الدكتور “حسين شريف” أن رأس مال بنكه الجديد مائة وخمسين ألف جنيه أي تقريبا الضعف!!.
فخامة بنك المستريح !!
كما أعلن نفسه رئيساً له وأحاطه بكل مظاهر البذخ والفخامة والتي لا تجعل الناظر إليه يشك أن هذا بنك، وأن صاحبه دكتور في القانون؛ فمبني البنك في شارع “الشريفين” ناحية “البورصة”، يحمل اسم ” البنك المصري العام ” بحروف بارزة، وغرفة المدير الأنيقة على أحد جدرانها شهادة الدكتوراة المزيفة، فيما تزينت باقي الجدران بخزانة عامرة من الكتب المتنوعة في مجالات القانون والتجارة وأعمال البنوك ولوائح المعاملات وعلى مكتبه دواةٌ فخمة ثمنها لا يقل عن عشرة جنيهات، إضافة إلى غرفة كبرى لإجتماعات مجلس الإدارة تتصدرها صورة زيتية بالحجم الطبيعي لمليك البلاد الملك فؤاد الأول استعارها من محل تصوير.
مظاهر تجذب الناس للبنك
علاوة على غرفة السكرتيروغرفة رئيس مكتب الأعمال الفنية والهندسية المنوط به عمليات التشييد للمشروعات الصغرى والكبرى، التي يقوم بها البنك وبها صورة لرئيس الوزراء وقتئذ “إسماعيل باشا صدقي” مستعارة هي الأخرى من محل تصوير أسوة بمليكه، وكذلك خصص مكتبا لعاملة التليفون، وغرفة لكاتبين على الآلة الكاتبة ولم ينس أن يعد السراديب؛ لحفظ خزائن البنك، وما بها من ودائع ونقود ستنهمر قريباً.
مطبوعات البنك تعدت قيمتها المئتين جنيه وأضف لذلك ماكينات الطباعة والمكاتب الفخمة والأثاث الأنيق ، والأدوات الكهربائية والساعات المعلقة التي لا تخطىء حساب الوقت والسجاجيد الجميلة .
المستريح .. نصب بالجملة
هذه المظاهر التي أتقن صنعها الدكتور المزيف صاحب البنك المزعوم، ولم يدفع من أثمانها سوى اليسير أطمعت الكثير من المصريين والأجانب بالتعامل مع البنك الوليد، وجعلت التجار والصناع يحملون إليه ما شاء بالآجل وعلى وعد أن يصبحوا من المساهمين في رأس مال البنك . وبدأ الدكتور ” حسين شريف” يمارس نشاطه في النصب تحت ستار البنك بهمة ونشاط؛ فبدأ يتقاضي أموالاً كثيرة مقابل تعيين الراغبين في العمل بالبنك، والكل في ذلك سواء مصريين أو أجانب سعاة أو صرافين؛ فحصل من أحد الأجانب على مبلغ ثلاثمائة جنيه مقابل تعيينه صراف ثانٍ في البنك، كما أقنع أحد الوجهاء ببناء عمارة له بمبلغ ثلاثين ألف جنيه كما أتاح فرص الإكتتاب وفتح حسابات للعملاء بالبنك المزعوم على مصرعيه..
الحريرى أفندي يكشف المستريح
مع جهود أحد ضباط المباحث ويدعى الملازم أول الحريرى أفندي وقد ارتاب في شخصية الدكتور المحتال مع كثرة البلاغات حوله، كما جاء الحكم الصادر في 17 يونيو سنة 1929 م من الجمعية العمومية لمحكمة استئناف الإسكندرية المختلطة المشكلة بهيئة مجلس تأديب، والقاضي بمحو اسم “حسين شريف” المحامي تحت التمرين من جدول المحامين، والاستعلام الوارد من إدارة الأمن العام بباريس بشكاوى ضده في قضايا نصب وخيانة أمانة .
المستريح … لا أثر للأموال !
كل هذا جاء معظما من هذه الشكوك وواضعاً الرجل تحت المراقبة الدقيقة من المباحث، بدأت تتجمع خيوط الحقيقة بشكل جلي، وسقط في قبضة البوليس، وبتفتيش خزينة مكتبه وجد مبلغ مائة وأربعين جنيها فقط وبتفتيش قصره البالغ الفخامة مع زوجته الفرنسية في 18 شارع فؤاد الأول والمحاط بالسيارات الفارهة فضلا ًعن مداهمة البنك، وتفتيش خزائنه الخاوية على عروشها كافة لم يعثرعلى أي مال، وأدعى أن رأس ماله الحالي المدفوع ستة آلاف جنيه فقط هي نتاج كفاءته الشخصية التي تساوي هذا المبلغ وتفوقه!، والباقي في شكل أسهم مطروحة بالسوق؛ ليتضح في النهاية أنه حتى الستة آلاف جنيه لا وجود لها، وهذا بحسب ما جاء عنه بمجلة “المصور” في 23 يونيو 1932م .
مصير المستريح حسين شريف

يبقى أن نسأل عن مصير حسين شريف أفندي مدير بنك مصر المزيف، وهو ما تكشفه لنا مجلة اللطائف المصورة في 31 يوليو 1933م من أن محكمة عابدين حكمت عليه بثلاث سنوات في 15 يوليو من العام نفسه وقد أخفى وجهه بقبعه حتى لا يلتقط المصورون صورته، وهو محاط بالبوليس وفي طريقه إلى السجن، أما الذين تم النصب عليهم فلم يحصلوا على شيئاً؛ لأنه لا أثر لها، والقانون لايحمي المغفلين!.
المستريح … قصة صادمة عن الزمن الجميل!
بالتأكيد قصة صادمة عزيزي القارىء خاصة أنها جاءت في بواكير القرن الماضي الذي كثيرا ما نشعر بنوستالجيا خاصة تجاهه، ونتصور أن كل ما شابه مثالي، وجميع ما خالطه حضاري، ونتمنى عودته، لكن الأرشيف الصحفي وهو أصدق مرآة لأي عصر أبي إلا أن يصدمنا في تصورات كثيرة ومعتقدات عديدة كاشفا حقيقتها على نحو لا يحتمل التجميل أو التزيين أو أوهام الحنين الخادع.

إقرأ أيضاً : من ذكرياتي الفنية … للآنسة أم كلثوم
إقرأ أيضاً : زبيدة ثروت بعد الشهرة
إقرأ أيضاً : “آخر ساعة” تسجل بالصور إنفعالات الأطفال مع حديث بابا شارو
الكلمات المفتاحية
#المستريح ..ظاهرة قديمة من الزمن الجميل،#المستريح،# المستريح ظاهرة قديمة،#المستريح من هو،#معنى المستريح،#مصطلح المستريح،# حسين شريف أمير ملوي،# شيخ المحتالين حسين شريف،#المستريح حسين شريف،# حسين شريف البنك المصري العام،#النصب،#الزمن الجميل،#الصحافة المصرية،#الأرشيف الصحفي،#نوستالجيا،# الدكتورمحمد فتحي عبد العال،#كتاب “الدر المنثور في مكنون جوهر العقول”،# الملك فؤاد الأول