بقلم نرمين عليم باحثة تراثية
تشكل الثقافة الشعبية جوهر تاريخ الشعوب وهويتها، تحمل في طياتها تاريخه الغني الممتد لآلاف السنين، تعكس قيمه ومعتقداته وتقاليده، وهي جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي للأمم، وجسر التواصل عبرالأجيال.
ويُعد الحفاظ على التراث الشعبي وعناصرالثقافة الشعبية، ضرورة حتمية للحفاظ على الهوية الثقافية، وتعزيز الترابط الاجتماعي بين أفراد المجتمع؛ حيث يوثق التراث للأجيال القادمة القيم الأصيلة التي يحملها، ويعكس مشاعر ومعاني روح الشعب عبر حقبات زمنية متعددة، ويدعم التواصل الثقافي، ويحافظ على الروابط القوية بين الأجداد والأحفاد.
وتُشكل الأقمشة التراثية في مصر أحد أهم العناصر التي تعكس التراث الثقافي والهوية الثقافية للوطن، كونها تحمل في طياتها قصصًا وتفاصيل عبر الحضارات المتعاقبة، وتعكس في مضمونها تعبيرا فنيا عن الشعب، وهدفًا وظيفيا مهما؛ حيث تستخدم في إنتاج الملابس اليومية والأزياء المصرية التقليدية مثل: الجلاليب والشالات، وأغطية الرأس سواء للنساء أوالرجال، كما تشكل دورا حيويا في قيام بعض الحرف اليدوية المصرية مثل: حرفة النسيج والصباغة، وحرفة الخياطة والتطريز.
ويبرز قطاع الأقمشة التراثيَّة في مصر كأحد العناصر الثقافيَّة التي تعكس تاريخ الثقافة المصريَّة وتعبرعن الهويَّة الوطنيَّة، من خلال وجودها الممتدة عبر الأجيال، وتصميماتها التطريزيَّة المميزة، التي تحمل في طياتها رمزيات وسيميائيات ذات دلالات بيئيَّة وثقافيَّة.
وتتميز الأقمشة المصرية بنسيجها الدقيق، وقدرتها على التكييف مع الأحوال الجوية، بالإضافة إلى متانتها وأصالتها، كونها مصنوعة يدويًا؛ ممَّا يكسبها متانة وقدرة على الاحتفاظ بشكلها وجودتها لفترة طويلة؛ وهو ما يجعلنا لا نزال نقتني بعض ملابس الجدات والأجداد حثي يومنا هذا.
كما أنَّ الأقمشة المصريَة تشارك بشكل واسع في منظومة الاستدامة البيئية، من خلال موادها الخام البيئية، وصبغاتها الطبيعيَّة المستخرجة من بعض النباتات مثل نبات النيلة الزرقاء والبنجر، والبصل والكركم، كما أنها محبوكة بأيدي حرفيين مصريين ماهرين؛ مما يجعلها تحمل بصمة فريدة ومميزة، وغير متكررة.
ويعتبر القطن المصري أحد أشهر أنواع الأقمشة التراثية في مصر، وأحد الموارد الاقتصاديَّة التي تحمل عناصر التراث الثقافي، ويتميز بنسيجه الدقيق وقدرته على التنفس؛ ممَّا يجعله مثاليا للأجواء الحارة والرطبة؛ لذا تعد القطنة المصرية الناعمة متينة، ومثالية لصناعة الملابس والمفروشات، وقلاع المراكب والمظلات.
ويبرز إنتاج القماش اليدوي في أخميم كمنتج من المنتجات التراثية التي يعود تاريخها إلى عصر المصري القديم؛ حيث اشتهرت هذه المنطقة المصرية بإنتاجها الفريد والفاخر من القماش اليدوي، الذي يتميز بجودته العالية ومتانته الفائقة، وقد استخدمه المصري القديم في صناعة أكفان الملوك، ثم أصبح يستخدم في كسوة الكعبة، وظل في تواصل مع الماضي حتى يومنا هذا، ينتج المفروشات والشالات الحريمي والرجالي.
وتتم صناعة الأقطان والحراير الطبيعية في أخميم على الأنوال الخشبية، التي كان يستخدمها المصري القديم، بذات المقاسات ونوع الخشب، وذات الخيوط وطريقة الإنتاج، من خلال التحكم في النول عن طريق اليدين والقدمين في وقت واحد، وتجري عملية الإنتاج من خلال “السدوة”، وهي تعني الخيوط الطويلة، حيث توضع الخيوط في 48 حلقة، تساوي عدد بكر الخيط، ويقوم الحرفي بجمعهم يدويا ونقلهم إلى النول، ويستغرق تصنيع القطعة الواحدة عدة أسابيع وقد تمتد أحيانًا إلى شهر أو أكثر حسب حجم القطعة.
إن إنجاز النسيج اليدوي الأخميمي باستخدام تقنيات يدوية ماهرة ومواد طبيعية يجعله خيارًا مستدامًا وصديقًا للبيئة؛ مما يجعل استخدامه فترة طويلة يؤدى إلى تقليل التأثير البيئي السلبي، كما أنه يتميز بألوانه الزاهية الجذابة؛ لذا فهو يُعد خامة مثالية في إنتاج الملابس والأزياء، وملابس الموضة المستدامة.
وتعني الموضة المستدامة أو الموضة البيئية عملية تصنيع أو اقتناء الملابس بأساليب صديقة للبيئة مع الأخذ في الاعتبار بعض المعايير مثل طريقة الاستخدام ونوع القماش المستخدم؛ بحيث يمكن تفادي الأقمشة الاصطناعية والتي تنتج من مواد غير عضوية، وتتسبب صناعة الملابس في حوالي 8% من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وبواقع 140 مليون طن من مخلفات الملابس؛ لذا فقد تساهم فكرة استخدام القماش الأخميمي في صناعة ملابس الموضة المستدامة في إطلاق مشروع أناقة بيئية وتراثية مستدامة بعدة مزايا تتمثل فيما يلي:
- يتم إنتاجه من القطن العضوي دون استخدام مبيدات حشرية ضارة؛ مما يقلل استهلاك الموارد وتلويث البيئة.
- يتم إنتاجه بواسطة حرفيين محليين؛ مما يعزز التوظيف المحلي، ودعم الاقتصاد المستدام.
- يساهم القماش الأخميمي في إنشاء أسلوب موضة متفرد يحمل عناصر التراث الثقافي للمجتمع.
ويمكن توظيف منتجات أخميم من الأقمشة في إنتاج تصاميم متعددة، مثل: القمصان والبناطيل والملابس النسائية بأنواعها، وحتى الملابس الداخلية، وهو مثالي للملابس الصيفية لما له من قدرة على امتصاص الرطوبة، كما أنه مناسب للأطفال لما يتميز به من نعومة ومتانة تناسب حساسية جسد الطفل في سنواته الأولى.

مما سبق يتضح لنا إن استخدام قماش أخميم في صناعة الملابس والأزياء المستدامة خطوة مهمة نحو تحقيق الاستدامة البيئية في صناعة الموضة، تهدف إلى تعزيز الاقتصاد المحلي، وتزيد من فرص عمل الحرفيين المحليين، وتجمع بين الجمال والأناقة والاهتمام بالبيئة، ونأمل أن تزداد شعبية هذا النوع من الملابس، لتصبح جزءا أساسيا في صناعة الموضة المستدامة.
الأقمشة التراثية في مصر كنز من كنوز التراث المصري، فهي تجسد تاريخًا طويًلا من الحرفية والجودة؛ لذا يجب أن نعمل على حفظ هذا الإرث الثقافي، وندعم استمرار عناصره حية، كونه يعد بمثابة مرآة تعكس تاريخ وثقافة هذا البلد العريق، وتترجم مهارات وإبداعات أبنائه من الحرفيين المهرة ، وتواكب الاتجاهات العالمية نحو الحفاظ على البيئة وتحقيق الاستدامة، ولا يزال للموضوع بقية في الأعداد القادمة.