بقلم : د. عمرو عبد العزيز منير أستاذ التراث وتاريخ العصور الوسطى
لا أذكر أنني توقفت كثيرًا أمام كل كلمة في كتاب ما قرأته ، مثلما توقفت أمام كلمات كتاب “الفقر والإحسان في مصر عصر سلاطين المماليك 1250 – 1517م” للمؤرخ المرموق آدم صبره، أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا وأشهر القامات العلمية المتخصصين في العصريين المملوكي والعثماني. وأقول: كلمات لأنني أحصى ما أقرأه بالكلمة لا بالموضوع ، فقد شغفني الكتاب رغم صدوره منذ وقت طويل ، وكأنما كنت أبحث عن موضوعه دون أن أدرى، ولا أزعم أنني انكببت على كتب آدم صبرة استكمل قراءتها بالكلمة رغم أنني أتابعها كثيرًا في هوامش الرسائل وأبحاث الزملاء والتلاميذ وأقوم بمناقشتها أحيانا، فآثرت أن أقرأه بعدما لاحظت أن منهجه في قراءة التاريخ قراءة جديدة ويسري بين كتبه ونصوصها مثل الأواني المستطرقة، البحث في التاريخ الاجتماعي بكل أطيافه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وبكل تمثلاتــه الأنثروبولوجية والثقافية والحربية والدبلوماسية. هذا اللون مختلف من الكتابة التي لا تأبه بصرامة الوثائقية والتدوين المتعالي الذى لا يفسح صدره إلا لمؤرخي الآلهة وأنصاف الآلهة والحكام ومن جاورهم، أما صانعو التاريخ الحقيقي فقد جرت العادة على ألا يقترب منهم المؤرخون ولا يرصدوا أحداث حياتهم اليومية ما بين إحباط وآمال وآلام وكأن التاريخ هو التاريخ النخبوي فقط، أما تاريخ الفقراء والعامة فلا أحد يلتفت إليه، ولذاك آثر آدم صبره الانحياز لتاريخ الوطن ليصل إلى قمة الحيادية في كتاباته عن صناع التاريخ الحقيقيين من العامة والفقراء حتى في تحقيقه لنصوص التراث العربي يخرج علينا بكتاب كتبه الشعراني قديمًا سماه: إرشاد المغفلين من الفقهاء والفقراء إلى شروط صحبة الأمراء.

كتاب “الفقر والإحسان في مصر عصر سلاطين المماليك 1250 – 1517م” للمؤرخ آدم صبرة (أذواق)
الكتاب فيه فوائد جليلة تعين على تصور المرتكزات العقدية والسلوكية التي تحكم التصوف التراثي من جهة النظرية في تعامله مع السلطة. الأمر المبهر في حالة السجال اللي أحدثها كتاب إرشاد المغفلين ليس أنه يقدم رؤية جديدة للماضي بواقعه التاريخي الممتد ولكنه يطرح أسئلة جديدة ويحفز المؤرخين ، هواه وأكاديميين، أنهم لا يترددوا في تناولهم بالنقد اللاذع الواقع الحياتي والشخصيات المهمة والأحداث العظيمة التي تشكل محطات حاسمة في تاريخ الأمة؛ لأن المجتمع الذي لا يمتلك القدرة على التفكير بشكل نقدي محترف هو بالتأكيد مجتمع ضعيف ولا يستطيع مواجهة تحديات الحياة .
الذي يهمني هنا أنه افتتح كتابه بشرط خلاصته: ألا يصحب الفقير(الصوفي) أو الفقيه الأمير إلا إذا كان هذا الأمير معه بمنزلة المريد بحيث لو طلب الشيخ منه أن يترك الحكم ويخرج من وظائفه وماله وكل ما يملك. أجابه!.
يمكنك أن تعرض هذا على ممارسات بعض أئمة التصوف ومواقفهم من الحكم والحكام في مصر المملوكية؛ ممن يظن بهم الولاية وهم من المتمسحين بأعتاب المجرمين، يزينون لهم الدماء المعصومة، ويفوح منهم نتن نفوسهم وما فيها من الضغينة وتضييع حق المؤمنين وحيث إن تراث الإمام الشعراني مجال خضب لبحث هذه المسألة نظراً لتطرق الإمام لأشكال مختلفة من علاقة الصوفي بالحاكم في مواضع عديدة، فقد نال حظاً من اهتمام دراسات آدم صبرة. ووقف بنا على حقيقة موقف الإمام الشعراني من حكام عصره، وأثار إشكالية كيفية تعامل الصوفية مع الحكام وإخضاعهم لحكم الشرع وإقامة العدل، ولكن يكفي مطالعة تراجم من ذكرهم من الشيوخ والتراجم في كتب الطبقات والتاريخ لتغيير هذا التصور المجحف عن حقيقة موقف شيوخ التصوف من قضايا إقامة العدل ورفع الظلم والدفاع عن المظلومين.
قد يهمك أيضا : أغاني رمضان بين التاريخ و الفولكلور (azwaaq.com)

كاتب المقال الدكتورعمرو منير مع المؤرخين آدم صبره، آدم مستيان، وآدم طالب (أذواق)
أما كتابه الفقر والإحسان في عصر سلاطين المماليك الذي قدمه في ثوب عربي مدهش بعد ترجمته المؤرخ المصري قاسم عبد قاسم ، وتم نشره في المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2003م. فهو محل هذه القراءة بصفة خاصة ، وقد أتيح لي اقتناء طبعته العربية في أوائل هذا القرن إذ يحس المرء مع كتابات المؤرخ آدم صبره أنه أمام ممكنات جديدة كانت خفية في فهم التاريخ؛ لأن النصوص ﻻ توجد في فراغ مكتفية بعزلتها الرائعة عن السياقات الاجتماعية والتاريخية وليس التراث نفسه بالنُصب الفخم القائم فيما وراء الزمان والمكان بل هو بناء سردي يتطلب عملية إعادة تأويل وقراءة مفتوحة النهاية لأن التاريخ يحمل في داخله نوعاً من الإنذار المبكر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته. وقراءة التاريخ، بهذا المعنى، تتم عدة مرات ومن زوايا عديدة و أعتقد أن المؤرخ آدم صبره في كتاباته عن البــر والإحسان إلى الفقراء في مصر العصور الوسطى هي نوع من إعادة قراءة تاريخ العامة والحوار مع الذات الذي نحن أحوج ما نكون إليه ، لأن الحوار مع الآخر لا بد أن يسبقه معرفة للذات والحاضر أولاً ، كي نقف على أرض صلبة في مواجهة سوء الفهم والعداء اللذين هما رفيقا الجهل والفقر والمرض في أغلب الأحيان. وقد سبق لآدم سميث في سياق اقتصادي الإحالة إلى إن الاهتمام بسعادتنا يوصينا بفضيلة الحذر، والاهتمام بسعادة الآخرين يوصينا بفضائل العدالة والإحسان، أحدهما يمنعنا من إيذاءهم والآخر يشجعنا على المساهمة فيهم. مما يدل بوضوح على أن إصلاحات الحياة لا تقوم فقط على الضمير الشخصي، بل على مجموعة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. التعاطف، والإحسان، واللطف، والإيثار، والاهتمام بالآخرين موجودة في جميع البشر باعتبارها نزعات أساسية: نرى هذا على وجه الخصوص أثناء سماعنا لآلام المرضى وتأوهات الجوعى في مصر المملوكية في شهر رمضان حيث كان يتم تنشيط نوبات الكرم بشكل عفوي، حتى بالنسبة لغير المسلمين من أهل الذمة في واقع تاريخي ممتد إلى يومنا هذا فقط يحتاج لأمر الاستعداد إلى التنشئة والتحفيز والتشجيع والتعلم.
قد يهمك أيضا : أصول أطعمة رمضان في مصر المحروسة (1) (azwaaq.com)
حظى شهر رمضان باهتمام النخبة المملوكية لفعل الخير والإحسان ، وصار من المعتاد أن يقدم السلاطين الطعام مجانًا للفقراء طوال الشهر الكريم ، ووفقًا لرواية النويري ، فإن مباشر الحوائج خاناه ( أي المسئول عن إدارة تموين البيوت السلطانية ) يجب أن يعرف ضمن أمور أخرى كمية الصدقات التي تعطى خلال شهر رمضان ، وكان السلطان الظاهر بيبرس معروفًا بكرمه خلال شهر رمضان ، وحسب رواية ابن عبد الظاهر ، كان بيبرس يطعم خمسة آلاف شخص كل يوم في رمضان سنويًا، ويكتب الكاتب نفسه أن الخبز وغيره من الطعام كان يجهز بمطابخ القاهرة والفسطاط لكلا يوزع مساء كل يوم خميس على الفقراء، وكانت صدقات الظاهر برقوق خلال شهر رمضان مشهورة، إذ كان الطعام يوزع في المساجد ، وخانقاوات ( الفقراء) الصوفية ، والسجون ، وكل مساء طوال الشهر الكريم كان يأمر بذبح خمس وعشرين بقرة وتوزع لحومها مع الآلاف من أرغفة الخبز. وفي رمضان سنة 785هـ / نوفمبر 1383م بادر السلطان برقوق بتحرير السجناء من أرباب الديون في الشهر الكريم، وجعل الأمير جركس الخليلي بدفع ديونهم من أموال السلطان حتى يمكن تحريرهم. وفي رمضان 905هـ / أبريل 1500م استعرض آخر سلطان مملوكي كبير وهو قنصوه الغوري مائتي رجل وامرأة من المحبوسين وأطلق سراحهم إكرامًا للشهر الكريم .
كثير من سلاطين مصر والأمراء أعطوا قدرًا كبيرًا من الصدقات إلى الفقراء حينما يسقطون فريسة للمرض مثل الظاهر بيبرس الذي وزع مبلغًا كبيرًا من المال على الفقراء بعد وقوعه فريسة للمرض في رمضان 663هـ / يوليو 1265م . وفي رمضان 841هـ / مارس 1438م واجهت مصر وباء خطيرًا وحاول السلطان فرض أقسى الإجراءات الشرعية على أمل أن يرتفع الوباء وينحسر الغلاء بمنع كل النساء من دخول الشوارع أو الأسواق ! وكانت النتيجة كارثية على المرأة المصرية إذ تم إعدام البعض منهن أما الأرامل وصاحبات الصنائع والحرف والشحاذات على أبواب البيوت فقد خسرن معاشهن!!.

كتاب “إرشاد المغفلين من الفقهاء و الفقراء” تحقيق وتقديم آدم صبره (أذواق)
في ظلال كتاب “الفقر والإحسان” توقفت أمام الفصل الرابع المعنون بالوقف لأجد نفسي مشدودًا مشدوهًا أمام صرح عظيم يقع في قلب القاهرة العتيقة ، نشر على الوجود لمسات إنسانية صادقة، أشاد به الرحالة والمؤرخون على مر العصور، الحياة بداخله ابتسامة هادئة تشق طريقها من بين الآلام فترسم السعادة على الوجوه ، جدرانه حضن دافئ يبدد قسوة الآلام ، أناسه ملائكة رحمة إذ يُعد البيمارستان القلاووني ، المستشفى الذى شيــده السلطان المملوكي المنصور قلاوون لعلاج الفقراء ، علامة حضارية مميزة تعكس عظمة ورقي الحضارة العربية الإسلامية وتؤكد عل أهمية علاج الفقراء والحرص على إنشاء المؤسسات العلاجية قبل أن تعرفها أوروبا بقرون عديدة. حين أحس حكام ذلك الزمان بآلام فقراء العوام فأقاموا لهم منشآت علاجية مجانية كصدقة جارية لعلاج المرضى أُطلق عليها البيمارستانات، وتكفيرًا عما اقترفوه في حق العامة، والحقيقة أن مبنى المستشفى الذي تم إنجازه في عشرة شهور فقط، قد تسبب في آلام أرباب الحرف الذين تعرضوا للضغوط كي يعملوا في خدمة المبنى، بالإضافة إلى عمل ثلاثمائة من المساجين في الموقع ، وكان الناس يؤخذون قسرًا من الشوارع ويسخرون في العمل لبناء المستشفى، بل إن الموقع نفسه أُخذ غصبًا من مالكيه، الذين كانوا من أبناء الأسرة الأيوبية، كما أن كثيرًا من مواد البناء انتزعت من المباني القائمة، وعلى الرغم من كل هذه التحفظات فإن جميع من كتبوا اتفقوا على الإشادة بهذا البيمارستان الذي أوقفوا عليه الأوقاف المختلفة ترغيبًا وترهيبًا، ووجِدَ الأطباء بالبيمارستان على الدوام وتناوبوا العمل ليلاً ونهارًا ، وكانوا يصفون لكل مريض ما يحتاج إليه من علاج وغذاء في دستور ورق ولم تقتصر الرعاية الصحية عل فئة دون الأخرى أو على المرضى الفقراء المقيمين بالبيمارستان أو المرضى المترددين عليه ، بل شملت أيضًا المرضى الفقراء في بيوتهم وكان بالمقابل بعض مشاهير الأطباء يعالجون الفقراء مجاناً، إلا أن هذا لم يكن كافياً، خاصةً وأن معظم الأدوية ( مثل حال اليوم ) كانت باهظة الثمن؛ إما بسبب استيرادها من بلاد بعيدة كالهند والصين أو بسبب جشع التجار، لهذا فقد اهتم بعض الأطباء المسلمين من العلماء الزاهدين من أمثال (الرازي وابن الجزار) بوضع كتب يعرضون فيها الأدوية الرخيصة كي يستطيع الفقير الحصول على العلاج.
قد يهمك أيضا : أصول أطعمة رمضان في مصر المحروسة (2) (azwaaq.com)
قراءة كتاب الفقر والإحسان لآدم صبره” تعدل قراءة عشر روايات دفعة واحدة والذي أوضح فيها ما لهذه الأوقاف من أهمية خاصة في تاريخ الطب العربي بصورة عامة، ذلك لأننا وجدنا فيها كتبًا بها مختلف أسماء الأمراض وطرق العلاج التي كانت شائعة في الطب الشعبي، كما تضم أسماء العقاقير والأدوية التي كانت متوافرة في الأسواق المحلية، والتي كان يمكن أن يحصل عليها الغني والفقير، يُضاف إلى ذلك وجود كثير من الوصفات التي كانت تُستعمل في حالات الإسعاف الأولي وخاصةً عند غياب الطبيب. دراسة رغم تخصصها الدقيق إلا أنها تضمن المتعة ولذة المعرفة لغير المتخصصين وتذكر العرب أنهم كانوا بناة حضارة، فمتى يعودون من عُمار الأرض من جديد؟