بقلم : نرمين عليم باحثة تراثية
تُعد الحرف التراثية جزءاً أساسيا من التراث الثقافي للمجتمعات ذات التراكم الحضاري والموروث الشعبي، وتمثل الحرف الأدوات والتقنيات التي تم تطويرها على مر العصور، والتي لا تزال تُستخدم حتى اليوم، وهي ليست مجرد أدوات أومنتجات، بل هي أيضًا تعبير عن الهوية الثقافية والتقاليد الشعبية، والعادات والمعتقدات لمجتمع معين.
ويُعد الارتباط الوثيق بالتاريخ والثقافة، أحد الجوانب المهمة للحرف التراثية؛ حيث تحمل كل حرفة سواء كان إنتاج الفخار، أوالنسيج، أوالنحت، أوالنجارة، في طياتها قصة عن الماضي، تعكس القيم والمعتقدات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتوفر نافذة على الحياة في العصور السابقة.
أيضًا، تُعتبر الحرف التراثية ركيزة أساسية في الاقتصاد الريفي والحضري، وفي كثير من الأحيان، تعتمد المجتمعات الريفية بشكل كبيرعلى هذه الحرف كمصدر من مصادر العيش والرزق؛ حيث توفر هذه الحرف فرص عمل لأفراد المجتمع، وتسهم في الاقتصاد من خلال بيع المنتجات المحلية.
ومن ناحية أخرى، تُعد الحرف التراثية أيضًا طريقة فعالة للحفاظ على البيئة؛ حيث تعتمد عديدًا من هذه الحرف على المواد الطبيعية والموارد المحلية، مما يقلل الحاجة إلى النقل والإنتاج الصناعي، وبالتالي يقلل من الانبعاثات الكربونية المؤثرة سلبٍ على الصحة العامة لأفراد المجتمع.
.jpg)
العمل للفنان الدكتور ضياء الدين داود أستاذ الخزف بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان (مصدر الصورة الفنان)
وفي هذا المقال نتناول حرفة إنتاج الفخار، وهو فن وحرفة قديمة تمتد عبر العصور والثقافات، وواحدة من أقدم الحرف اليدوية في التاريخ البشري، وقد استخدم الفخار عبر العصور والحضارات المختلفة، ويمكن تتبع تاريخه منذ العصور الحجرية القديمة؛ حيث يعود تاريخ أقدم الأواني الفخارية المكتشفة إلى حوالي 20,000 سنة قبل الميلاد، ومرت حرفة إنتاج الفخار بعصور مختلفة تطورت خلالها، وبدت أكثر حرفية وتعقيد؛ مما جعلها ذات تاريخ فني وتقني، وتتلخص هذه العصور على النحو التالي:-
قد يهمك أيضا : الزجاج المنفوج البلدي (azwaaq.com)
أولًا: العصور الحجرية
في هذا الوقت، استخدم الناس الطين لصنع الأواني والأدوات اليومية، وكانت الأواني بسيطة وغير مزينة في البداية، ولكن مع الوقت، بدأ الناس في تزيينها بالنقوش والرسومات.
ثانيًا: العصور البرونزية
في هذه الفترة، تطورت تقنيات إنتاج الفخار وأصبحت أكثر تعقيدًا، وبدأ الأفراد في استخدام العجلة الفخارية؛ مما سمح لهم بصنع أوان أكثر دقة وجمالًا.
ثالثًا: العصور الكلاسيكية
استمر إنتاج الفخار في العصور اليونانية والرومانية، وأصبح الفخار جزءًا مهمًا من الثقافة الشعبية للعديد من المجتمعات، وأصبحت الأواني الفخارية مزينة بشكل فني وزخرفي، وتعبر عن الحياة اليومية والحكايات، والأساطير الشعبية.
رابعًا: العصور الوسطى
تطورت تقنيات الفخار بعد ذلك أكثر فأكثر، وظهر الفخار الخزفي، الذي كان أكثر صلابة ومتانة من الفخار التقليدي.
خامسًا: العصور الإسلامية
شهد إنتاج الفخار تطورًا هائلًا في العصور الإسلامية، وتميزبحرفية ومهارة عالية، ودخلت الأواني الفخارية ضمن عناصر تزيين عديد من القصور، وحملت جدران الأواني الفخارية الأنماط الهندسية والزخارف النباتية، وبعض كتابات الخط العربي.
سادسًا: العصور الحديثة
في القرنين الأخيرين للميلاد، أصبحت المنتجات الفخارية شائعة جداً، وتطور إنتاج الفخار، وأصبح ليس فقط للاستخدام العملي، ولكن أيضًا كفن وتعبير عن الإبداع الفردي.
ولا يزال هناك الكثير الذي لم يتم اكتشافه وفهمه في هذا الموضوع الغني المعقد حتى الآن.
ويتميز الفخار بثراء خامته وتصميماته، وهناك العديد من الأنواع المختلفة من الفخار، والتي تتميز بفروقات في المادة المستخدمة، والتقنيات المتبعة، والشكل النهائي للفخار، ومن أبرز أنواع الفخار الأنواع التالية:
- الفخار الخزفي:
أكثر أنواع الفخار شيوعاً وتحملًا، ويتميز بقوته ومتانته، ويمكن استخدامه في الأغراض اليومية مثل الأطباق والأكواب، ويتم تسخين الفخار الخزفي في الأفران المخصصة لحرق الفخار على درجات حرارة عالية؛ ليصبح قوياً ومتيناً.
- البورسلين
نوع من الفخار الذي يتميز بنقائه وشفافيته وصلابته، ويتم تصنيعه من الكاولين، وهو نوع من الطين الأبيض النقي، ويتم تسخينه داخل الأفران على درجات حرارة عالية لضمان متانته.
- السيراميك
نوع من الفخار يتكون من الطين ويتم تسخينه داخل الأفران على درجة حرارة معتدلة، وتتراوح الأشكال والألوان والأنماط في السيراميك، ويستخدم في العديد من الأغراض، من الأواني المنزلية إلى الأعمال الفنية، والأرضيات والديكورات.
- الخزف الحجري
نوع آخر من الفخار يتميز بقوته ومتانته، ويتم صنعه من المواد الخام مثل السيليكا، والفلدسبار، والكاولين، ويسخن على درجات حرارة عالية ليصبح صلباً ومقاوماً للكسر.
وتعد هذه الأنواع من الفخارالأنواع الأكثر شيوعًا، ولكن هناك العديد من الأنواع الأخرى المستندة إلى الثقافات والتقنيات المحلية، ويتميز كل نوع من الفخار بخصائصه واستخداماته في الأغراض المختلفة، ويعتبر كل نوع من هذه الأنواع فريدًا وجميلًا في سماته المختلفة.
وإنتاج الفخار فن يحتاج إلى مجموعة من الأدوات المتخصصة، والتي تختلف من منطقة لأخرى ومن نوع لآخر، وقد يكون هناك العديد من الأدوات حسب الأسلوب والتقنية المحددة التي يستخدمها الفخاريون، ولكن توجد بعض الأدوات الأساسية المستخدمة في إنتاج كافة أنواع الفخار، وتشمل الأدوات التالية:-
- عجلة الفخار
أداة مهمة تستخدم لتشكيل الطين، وتحويله إلى أوان وأطباق وأكواب وغيرها من الأشكال المختلفة للفخار.
- الطين:
المادة الأساسية في إنتاج الفخار، ويمكن أن يكون الطين من أنواع مختلفة، مثل الكاولين، أو سيليكات الألومنيوم المخلوطة بمواد أخرى.
- أدوات التشكيل
تشمل أدوات تشكيل الطين عدة أدوات مثل: الأسلاك لقص الطين، والأدوات الخشبية والمعدنية لتشكيل وتنعيم الطين.
- فرن الفخار
يستخدم في حرق الأواني الفخارية على درجات حرارة عالية، وتحويلها إلى درجة التصلب؛ مما يجعلها متينة تحتمل العمل الشاق.
- الألوان والجليز
يستخدم في تزيين الفخار، وتغطيته بطبقة واقية ولامعة لإضفاء لمسات جمالية عليه.
- أدوات التلوين والزخرفة
تشمل هذه الأدوات فرش التلوين، والأدوات المساعدة التي تستخدم في تزيين الأواني الفخارية.
- الإسفنج
يستخدم في تنعيم السطح وإزالة البقايا الطينية.
- أدوات النحت
تستخدم لإضافة تفاصيل دقيقة للأواني الفخارية.
ويتضمن انتاج الفخار عدة مراحل رئيسية، تمثل خطوات أساسية في الحصول على المنتج النهائي، إلا انها قد تختلف في خطوة أو أكثر من منتج فخاري لآخر.
- أولًا: التحضير
يتم في هذه الخطوة تجهيز الطين، وتتضمن هذه الخطوة تنقية الطين من الشوائب، وإعداده للصياغة.
- ثانيًا: الصياغة
في هذه الخطوة، يتم تشكيل الطين إلى الشكل المطلوب، ويمكن أن يتم ذلك يدوياً أو باستخدام عجلة الفخار.
- ثالثًا: التجفيف
بعد تشكيل الطين، يترك في الهواء، بهدف تجفيفه، ويجب أن يجف الطين بالكامل قبل الخبز، وإلا قد ينفجر في الفرن.
- رابعًا: الخبز
بمجرد أن يجف الطين، يتم وضعه في الفرن وخبزه على درجة حرارة عالية؛ مما يجعل الفخار صلبًا ومتينًا.
- خامسًا: التزجيج
بعد الخبز، يمكن تطبيق الجليز على الفخار، ويعطي الجليز للفخار مظهرًا لامعًا ويساعد على حمايته.
- سادسًا: الخبز الثاني
بعد تطبيق الجليز، يتم الخبز مرة أخرى في الفرن؛ بهدف جعل الجليز يذوب ويشكل طبقة صلبة على سطح الفخار،بهدف تجميل وحماية الفخار.
- سابعًا: التبريد
بعد الخبز الثاني، يتم تبريد الفخار ببطء لتجنب أي تشققات قد تحدث له بسبب الفروق الحرارية السريعة.
- ثامنًا:الزخرفة
تأتي الخطوة الأخيرة بغرض تزيين الفخار، وهذا من خلال الرسم على السطح، أو نحت التصاميم، أو تطبيق الألوان والجليز الخاص.
هذه الخطوات، تُعد الخطوات الأساسية في إنتاج الفخار، وبالطبع، قد يكون هناك بعض الاختلافات بناءً على الأسلوب والتقنية المستخدمة.
ويستخدم الفخار في أواني الطهي، مثل الطناجر الفخارية، التي يتم استخدامها لطهي الطعام، بالإضافة إلى استخدامه في إنتاج الأقدح الفخارية والأكواب لتقديم المشروبات، مثل القهوة والشاي والعصائر، وكذلك في الأطباق والصحون الفخارية التي يتم استخدامها في تقديم الطعام والحلويات، ويتمتع الفخار بجمال طبيعي وتقليدي؛ مما يضفي جواً من الدفء والراحة على المكان.
ويسهم الفخار في أساليب الحياة المستدامة، برغم أن هذا يتوقف على كيفية صنع الفخار وكيفية استخدامه، ولكن في العديد من الحالات، يمكن للفخار أن يكون خيارً صديقًا للبيئة، وأن يكون جزء مهم من الحلول المستدامة للعديد من التحديات البيئية التي نواجهها اليوم؛ نظرًا لما يتمتع به من سمات وخصائص كما في النقاط التالية:-
.jpg)
العمل للفنان الدكتور ضياء الدين داود أستاذ الخزف بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان (مصدر الصورة الفنان)
- المواد الطبيعية المنتجة للفخار
الفخار يتم صنعه في الغالب من الطين، وهو مادة طبيعية ومتجددة، وهذا يعني أنه لا يتطلب استخراج الموارد الطبيعية غير المتجددة، مثل البترول أو المعادن.
- صحي وآمن
إن إنتاج الأواني الفخارية لا تحتوي على المواد الكيميائية التي يمكن أن توجد في بعض الأواني الأخرى، مثل الأواني غير القابلة للالتصاق على سبيل المثال؛ وهذا يعني أنها أكثر أمانًا للطهي وتخزين الطعام.
قد يهمك أيضا : إبداعات على النحاس (azwaaq.com)
- شديد التحمل وطويل الأمد
الأواني الفخارية متينة تحتمل العمل الشاق، ويمكن أن تدوم لفترة طويلة إذا تمت العناية بها بشكل صحيح؛ وهذا يقلل من الحاجة إلى استبدالها بانتظام، مما يقلل من النفايات.
- قابل للتحلل وإعادة التدوير
الأواني الفخارية الهالكة تدخل ضمن العديد من الاستخدامات مثل: حماية أسوار المنازل، وأيضًا في الأسقف الريفية، كما أن التخلص منها إذا ما تم بشكل صحيح، يجعلها من الممكن أن تتحلل بالكامل؛ مما يقلل من الآثار السلبية البيئية.
- تقليل استهلاك الطاقة
الأواني الفخارية تحافظ على الحرارة بشكل جيد، مما يعني أنه يمكن طهي الطعام فيها بكفاءة أكبر واستخدام أقل للطاقة.
ويتطلب إنتاج الفخار اليدوي مهارةٍ وصبراً، وهناك عديدًا من التحديات التي يواجهها فنانو الفخار اليدوي منها على سبيل المثال:-
- الجودة
إن الحفاظ على إنتاج الفخار بجودة عالية وتكوين موحد للأواني الفخارية يدوياً، يمكن أن يكون تحدياً، خاصةٍ بالنسبة للمبتدئين.
- الوقت
يتطلب إنتاج الفخار اليدوي وقتاً طويلاً؛ حيث يتم تشكيل الطين، والتجفيف، ثم الخبز، وأخيراً التزجيج والتشطيب.
- تكلفة الإنتاج
الفخار اليدوي قد يكون مكلفاً، خاصة في البداية؛ حيث تكون هناك حاجة للعديد من الأدوات والمعدات، بالإضافة إلى تكاليف الطين والجليز.
- التسويق والمبيعات
يُعد العثور على سوق للفخار اليدوي، وبيعه بأسعار تعكس الجهد والوقت الذي يتم بذله، تحدياً يستلزم مواجهته، والتغلب عليه.
- التعلم والتحسين المستمر
إن الفخار فن يتطور باستمرار، ويتطلب تحسين المهارات، وتعلم تقنيات جديدة للحرفيين بشكل مستمر.
- الصحة والسلامة
يمكن أن يؤثرالعمل مع الطين والأفران على الصحة العامة للحرفيين، إذا لم يتم التعامل مع ذلك بشكل سليم، مثل التعرض للغبار أوالدخان، والجلوس لفترات طويلة على عجلة الفخار، أوالعمل مع الأدوات الحادة.
وبرغم هذه التحديات، فإن الفخار اليدوي يوفر فرصة للتعبير الإبداعي والتواصل مع التقاليد القديمة، ويمكن أن يكون مكافئاً جداً.
إن ما يواجهه الحرفيين الذين يعملون في صناعة الفخار من تحديات، تستلزم إيجاد العديد من الحلول الممكنة التي يمكن أن تساعد في التغلب على هذه التحديات، ونستعرض منها الحلول التالية:-
- التدريب والتعليم
يعمل تناقل الخبرات والمهارات بين الحرفيين الجدد والحاليين، على المساهمة في زيادة مهارات وثقة حرفيي الفخار في إنتاجهم.
- الدعم المالي
يمكن أن يوفر الدعم المالي، سواء من خلال القروض الصغيرة أو المنح، الأموال اللازمة لشراء المواد الخام والأدوات المساعدة، وتحسين البنية التحتية الازمة لمنتجي لفخار.
- تعزيز الأسواق المحلية
إن تشجيع المجتمعات المحلية على شراء الفخار المحلي، يمكن أن يسهم في دعم الحرفيين، والحفاظ على الفخار كحرفة تراثية متوارثة.
- الترويج الدولي
يدعم استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي الترويج للفخار المحلي، كما يمكن أن يفتح أسواقًا جديدة، ويجعل الحرفة معروفة على نطاق أوسع.
- الشراكات مع المؤسسات التعليمية
يمكن أن يسهم عقد شراكات مع المدارس والجامعات في تعليم الطلاب حول إنتاج الفخار، وتشجيعهم على تعلم الحرفة.
- الحفاظ على الصحة والسلامة
يمكن أن يساعد توفير التدريب على الصحة والسلامة، والتأكيد على أهمية استخدام الأدوات الصحيحة والتقنيات الآمنة، في تقليل أية مخاطر صحية ترتبط بحرفة إنتاج الفخار.
هذه الحلول يمكن أن تسهم في تقديم الدعم اللازم للحرفيين العاملين في إنتاج الفخار، وتحافظ على استدامة هذه الحرفة التراثية، وتضمن بقاءها وتوارثها عبر الأجيال.
وفي النهاية، فإن الحرف التراثية تمثل الجسر بين الماضي والحاضر والمستقبل، من خلال الحفاظ على هذه الحرف وتعلمها للأجيال الجديدة، وتضمن أن تظل الثقافة والتقاليد والقيم القديمة حية ومستمرة بين أيدينا، وتأصل للهوية الثقافية لمجتمعاتنا، وترسخ مفاهيم الأصالة والانتماء لدى أبناء هذا الوطن العريق.