يعيش الإنسان العادي حياة واحدة، يذوق فيه الحلاوة والمرارة، يختبر الواقع بتركماته وبحمولته الوجدانية والوجودية، بينما القارئ المبحر في عوالم القراءة المثمرة يعيش أكثر من حياة، يضيف أعمارا إلى عمره المحدود.. يقول جورج ر.ر.مارتين :”القارئ يعيش ألف حياة قبل أن يموت، والرجل الذى لا يقرأ يعيش حياة واحدة”.
إن الحياة مع الكتب هي التي تمنحك هذه الحيوات العميقة؛ فتسافر حيثما شئت إلى عصور مختلفة وحضارات متنوعة؛ تستلهم منها المعرفة والحكمة وقوة البصيرة، إنه سفردون تأشيرة، رحلة العقل في بساتين الإنسانية يستمتع فيها بأنواع الأزهار والورود؛ فيستنشق عبق الحكمة وشذى الفكر ورياحين الأدب فيا له من سفر لا يوفق إليه إلا المحظوظون، الناجحون أصحاب البصمات في الحياة.. لذا لا نستغرب أن يختار القارئ المتميز الحياة مع الكتب ليعيش أزمنة متعددة ممتدة، فيها من العمق والثراء والغنى ما يجعلها تستحق المغامرة من أجلها والتضحية في سبيلها؛ لأن المكسب في النهاية عظيم وكبير.
ويبين لنا الكاتب الكبيرالعصامي عباس محمود العقاد سبب حبه للقراءة وهوايته لها فيقول :” كلا .. لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً في تقدير الحساب .. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولاتحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثرمن حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقاديرالحساب”.
نعم صدق كاتبنا الكبيرعباس محمود العقاد؛ فحياة واحدة لا تكفي؛ فكيف نفرط في صحبة الكتاب؟ أليس هو الصديق الذي لا يخون ؟، يسلينا في وقت الشدة والألم ويخفف عنا قساوة الوجود… ويمنحنا متعة الفكر والقدرة على التأويل وتعدد المفاهيم، ويحفز ذاكرتنا ويقويها ويجعلها متقدة.. وصحبة الكتاب علاج لأدواء الروح من رتابة الواقع والروتين القاتل.
فلنحيا مع الكتب حياة حقيقية مفعمة بالحب والأمل والجمال وسحر الخيال ولنحتضن هذه الحياة بكل شوق و حرقة هي حبنا الأبدي الذي يلهب احاسيسنا ويثير فينا دفء اللقاء في أزمنة خضراء ترقص فيها الروح منتشية متوهجة بأشعة نورانية من عالم غيرعالمنا المادي.
. يكفي الكتاب شرفاً فهو معلمك الذي يعلمك بلا عصا ولا غضب ولا توبيخ كما قالت الكاتبة البريطانية إليزابيت باريت براونينغ ” الكتاب هو المعلم الذي يعلم بلا عصا، ولا كلمات، ولا غضب، بلا خبز ولا ماء.