في عصر تحول فيه “الإسكرين شوت” من خاصية تقنية إلى أسلوب حياة، يبدو أن الإنسان الحديث قد توقّف عن عيش اللحظة واكتفى بتوثيقها.
صورة هنا، لقطة شاشة هناك منشور محفوظ ، دردشة مصورة، لحظة مؤثرة تُقبض عليها قبل أن تُفهم ، وتُحفظ قبل أن تُحس.
نحن لا نعيش نحن نُؤرشف، إنه زمن الـ”سيف فور ليتَر” (save for later) الذي لا يأتي أبدا.
نمر على الأفكار العميقة دون أن نتأملها، ونحفظ المقالات دون أن نقرؤها، نصوّر الغروب، ولا نتأمله، ندوّن الضحكات دون أن نضحك من القلب.
أصبحت الحياة سريعة كأصابعنا سطحية كالواجهة الرقمية، معلبة في ملفات مؤقتة باسم : ذكريات قيد التحميل.
وفي أذواق أتناول اليوم ظاهرة يمكن أن نطلق عليها “زمن السكرين شوت” و “أرشفة الذكريات” لاستعادتها في زمن آخر .
زمن الإسكرين شوت
لماذا لا نكتفي باللحظة كما هي؟ لأننا نعيش في زمن لا يثق في الذاكرة، إنه زمن يخاف من النسيان أكثر من خوفه من الفراغ.
لذلك نُعيد الحياة عبر الكاميرا لا عبر القلب، نسجّل بدلاً من أن نشعر، ونحتفظ بدل أن نحيا.
ولعل الأخطر من ذلك أننا نحيا بعين الجمهور.
نأكل لنصوّر لا لنتذوق.، ونسافر لننشر لا لنكتشف، نبتسم للكاميرا لا للروح.
أصبح التوثيق شكلاً من أشكال الاستهلاك؛ نستهلك اللحظة عبر تصويرها، ونستهلك أنفسنا عبر مشاركتها.
كل شيء أصبح مادة قابلة للعرض: الحزن، الفرح، الطعام، المرض، وحتى الصلاة، إنه زمن السوشيال ميديا، وزمن الإسكرين شوت.
إقرأ أيضاً للكاتب : لماذا أعجبني مسلسل”وتر حساس”.. برغم الهجوم عليه؟!
الإسكرين شوت والأرشيف الحي
فهل نُخطئ إن قلنا إن الإنسان تحوّل من كائن حي إلى “أرشيف حي”؟!.
لقد تغيّرت علاقتنا بالزمن أيضًا. لم نعد نعيش “الآن”، بل نُحضّر الآن من أجل أن نتذكره لاحقا.
وكأننا نقول للحظة: لا تهميني الآن، لكني سأهتم بك عندما أُشاهدك لاحقا.
وهكذا نفقد الجوهر مرتين: مرة عندما لا نعيش اللحظة ومرة عندما نكتشف أن الصورة لم تُسعفنا لاسترجاعه!.
راجع نفسك
متى كانت آخر مرة جلست مع من تحب من دون أن تلتقط صورة؟.
هل أكلت وجبة دون أن تفكر في إضاءة الطبق؟.
متى بكيت بعمق دون أن تكتب منشورا بعد ذلك؟ و هل قلت لشخص “أنا أحبك” دون أن تحوّلها لحالة فيسبوك؟ !.
نحن نُفرّغ الحياة من معناها ثم نُعيد تدويرها بشكل مصطنع.
لحظة الحب تُصبح “بوست رومانسي”، لحظة الحزن تُصبح “اقتباس عميق”، لحظة النجاح تُصبح “كلمة شكر للجميع”.
لم يعد شيء يخصّنا كل ما نملكه أصبح “قابلا للمشاركة”، وكل ما نحياه نُعيد صناعته ليناسب الجمهور
والمفارقة؟ .
إقرأ أيضاً للكاتب: قهوة سادة على رصيف الذكريات
“الإسكرين شوت” … قلق دفين
أننا لا نعرف جمهورنا أصلا، في كل لقطة شاشة أو “سكرين شوت “نأخذها هناك قلق دفين: ماذا لو ضاعت هذه اللحظة؟.
و لكننا لا نسأل: وماذا لو عشناها حقا؟ الحياة الحقيقية لا تحتاج إلى توثيق دائم بل إلى إنتباه عميق.
الذكريات التي تبقى في القلب، المشاعر الصادقة، لا تحتاج إلى ذاكرة هاتف، واللحظات العظيمة، لا تحتاج إلى عدسة بل إلى وعي.
لذلك ربما حان الوقت أن نسأل أنفسنا: هل نُوثّق لأننا نحب اللحظة؟ أم لأننا لا نعرف كيف نعيشها؟ هل نخاف من النسيان؟ أم نخشى الفراغ الذي سيظهر لو لم نُشارك؟ .
هل توثيق اللحظة يُثريها؟ أم يُفرغها من خصوصيتها؟ الصور لا تُخلّد اللحظة بل تُجمّدها، والحياة لا تُقاس بعدد اللقطات أو”الإسكرين شوت”، بل بعمق الشعور.
فدعونا نُنزل أعيننا من الشاشة قليلا ونرفع أرواحنا نحو اللحظة، دعونا نُجرب أن نضحك دون تسجيل، أن نُحب دون بث مباشر أن نحزن دون فلتر.
وذلك لأن الحياة حين تُعاش بصدق، لا تحتاج إلى “سكرين شوت” تحتاج فقط إلى قلب مفتوح، ووعي حي، وروح قادرة على الحضور الكامل.