بقلم الكاتب المغربي أجدور عبد اللطيف
ونحن نشاهد أي وثائقي عن إحدى دول آسيا الشرقية، إندونيسيا أو ماليزيا أوتايلاند أو مناطق من الصين مثلا، يبرزدوماً قبالتنا على الشاشة ذاك الشيخ، أوتلك العجوزالتي تفترش الأرض محاطة بأطفال من حفدتها أومتعلّميها، وهي تقوم بإنجازعمل يدوي ما، تخيط شباكاً أو ثياباً، تعد قواقع أوتمزج أعشاباً، تصنع سلالاً أوأدوات ديكوروزينة، أو تجهزأعشابا برية من أجل وصفة دوائية أوأكلة.
كما نلحظ دوماً ملازمة الابتسامة والسكينة التي-لا يخطئها الحدس- لذلك الوجه المتجعد عندما ينجزهذه الأشغال.. وبغض النظرعن الفقر الذي يعتبرغالباً الدافع وراء الاشتغال ببعض الأنشطة اليدوية، فإن العمل اليدوي البسيط من ينظرإليها من ركائزهذه الحضارات، ومن دعائم مقومات وجودها التاريخي المبهر.
قد يهمك أيضا : الفخار.. تاريخ فني وتقني طويل (azwaaq.com)
العمل اليدوي فطرة إنسانية
ما يهم من المسألة أكثرهوالأطفال الذين يشاركون في هذه الأعمال، ويمرنون أياديهم الفتية في غيرإكراه، تلك الأيادي التي تحتاج لعمل تنشغلان به، وتشكلان عبره الوعي المستقل، وتربطان عن طريقه علاقات حسية مع الوجود والموجودات، إنها فطرة أصيلة في بنية البشر منذ الإنسان البدائي (الذي لم يكن بدائيا تماما)، منذ اتجه إلى القطع والتشذيب، والنحت والتشكيل والصياغة، والإضافة والحذف والخط والتعدين.
فأنتج فأسا وصوانا وسهما وفروا، لقد أدرك البشر عبرهذه الاختراعات التي غيرت مع تواليها وجه التاريخ جبروت العمل، وضرورة تسخيرقدرات العقل الجبارة؛ لتصب عبر نهر اليدين الخلاقتين، ولعل أعظم ما طبع رحلة يدي الكائن البشري هوالتوصل للكتابة ، ومن ثمة تأليف روائع الأدب والفكر والمعرفة والعلوم، ما أخرجه من مصاف الكائنات البهيمية الأخرى، وخوله استحقاق إنسانيته.
فوائد تعليم الطفل العمل اليدوي
.jpg)
تعلم الأطفال أسرار الحرف اليدوية ضرورة ملحة
لقد اعتبرت الفيلسوفة سيمون فايل العمل حاجة روحية شأنها شأن التفكير والحب والتعاون والعيش المشترك، واعتبرتها حاجة تربوية مركزية في تشكيل الوعي السليم المبدع، كما أسلفنا.كما يشير المفكر سعيد ناشيد في إحدى مقالاته عن فوائد العمل إلى لفتة ماتعة، هي أن تركيز الطفل في عمل يدوي يعني اندماجه في الحاضر بشكل كلي، وابتعاده عن بعض الذكريات الماضية السيئة، وعن بعض التوجس من طبيعة المستقبل الذي لم يحن بعد، مستقبل يبدو كل يوم أكثر قتامة، وكذا لفت النظر لكون إدمان العمل اليدوي يمكِّن من التحكم بالعقل المطبوع بالميل للسهو وإنفاق الوقت في الشرود والخيالات.
بما أن طبيعة الإنسان الخمول والكسل، فإنه يصطلح على النوم عادة بتعبير: استسلمت للنوم، أما والنهوض، فلا بد له من استفراغ الجهد وبذل القوة، لذا فتعويد الطفل مزاولة الحرف يلقن الجد والكد وحب العمل والإنتاج، ويدفع عنه السأم والكلل والخوائية والعدمية، ويقوده إلى الإيمان بأن رسالة الحياة هي العمارة والبناء والتشييد والإغناء والاغتناء.
قد يهمك أيضا : كعك العيد …احتفال شعبى وهوية ثقافية (azwaaq.com)
العمل اليدوي والمدرسة
لقد ظل العمل اليدوي منفصلاً عن المدرسة وأماكن التدريس لقرون طويلة، ولم تتعال نداءات التربويين والنفسانيين لدمج أنشطة حرفية في المدراس والثانويات سوى خلال العقود الأخيرة، يعزو الباحث في علم الاجتماع الأستاذ ريتشارد سينيت هذا إلى “أن السبب الذي أدى إلى فصل العمل اليدوي عن الذهني هو الأفكار الخاطئة التي وصلت إلينا من قدماء الإغريق، الذين كانوا يرون أن العمل اليدوي أقل قيمة وتبجيلاً من العمل الفكري أوالذهني، على الرغم من أن البعض يعزوذلك إلى ظهور النظام الصناعي في القرن التاسع عشر، وبروز نخبة من المهندسين الموكلين بالتفكير قبل التصنيع”.
ولكلام الأستاذ سينيت وجه حق صريح إذا استحضرنا بنية المجتمع الإغريقي التي كانت تعتبر التعلم مرادفا للتأمل والإنتاج الفكري مقتصرة على النبلاء، وتوكل الأعمال اليدوية عادة إلى العبيد سواء الزراعية أو الحرفية. ومع ذلك فقد ساهمت الدراسات التي بيّنت مجانبة هذا التصور للصواب في تغيير نظرة الناس في المجتمع المعاصرإلى الأعمال اليدوية، فمهنة النجار مثلاً في الخيال الجمعي الأمريكي ذات رمزية أكثر سمُوّاً من مهنة المصرفي.
وبالتالي اتجهت العديد من الأنظمة التعليمية إلى اعتماد حصص دراسية خاصة بالعمل الحرفي، وإنشاء محترفات وورشات لتلك الغاية داخل أروقة المدارس، ولعل أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية وإن كانت ما تزال محدودة، وبعض الدول الأوروبية مثل فنلندا، أما دول جنوب شرق آسيا فإنها هذه المادة تدخل في صميم المنهاج الدراسي.
ما تزال الدول العربية تنظرإلى هذا العنصرالمهم نظرة هامشية، لاعتبارات بيداغوجية، وتنظيمية، واقتصادية كذلك، إلا من استثناءات شاذة هنا وهناك كما هو الشأن بالمملكة العربية السعودية التي تجتهد لإيجاد صيغ للاستفادة من فوائد الأعمال اليدوية العصية على الحصر.
استثمار طاقات الأطفال
.jpg)
توظيف طاقة الأطفال لتعلم العمل اليدوي أمر واقعي وفق رؤية كاتب المقال
إنه لمن الواقعي والنبيه جداً استثمار طاقات الأطفال في ورشات العمل اليدوي بكل أصنافها خزفا وجلدا وخشبا وحديدا وورقا، في المدارس كما في البيوت، ولاعجب أن شخصيات مشهورة تنشئ ورشات نجارة أو حدادة أوغيرها في منازلها، ولاغلو في توصية الكثيرمن النفسانيين وعلماء التربية بمعالجة الكثير من الاضطرابات النفسية والإنحرافات السلوكية لدى الأطفال بتمكينهم من العمل اليدوي، ففي ذلك تحريرلهم من الشحنات النفسية السالبة، وتفجير لطاقاتهم المكبوتة، فإن كما يقول ناشيد أيضاً”اليدين اللتين لا تتقنان فعل أي شيء سرعان ما تصبحان خطراً على الروح”.