بقلم الكاتب والناقد المغربي : فريد زاهي
” ثمّة طريقتان لمجاوزة التشخيصية (أي الرسم التوضيحي والسردي): إما نحو الشكل التجريدي، أو نحو الصورة الحرة المشخّصة la Figure. وطريق الصورة المشخصة يمنحها سيزان اسما بسيطا هو: الإحساس. الصورة المشخصة هي الشكل المحسوس الذي يُربط بالإحساس؛ وهي تؤثر توّا على الجهاز العصبي الذي هو من لحم. أما الشكل التجريدي فإنه يتوجه إلى الدماغ ويمارس تأثيره من خلال وساطة الدماغ، قريبا من العظم. (…)الإحساس هو ضدّ الأمر السهل والشيء الناجَز، والكليشيه، كما أنه ضد الشيء المثير المتلاعب بالأحاسيس وضد العفوي… الإحساس عبارة عن وجود في العالم”…( جيل دولوز، منطق الإحساس، منشورات لوسوي، باريس، 2002، ص. 39
حين يجد فنان معاصر منْيته الفني في غويا وسيزان، ولا يستسلم لغواية المنشآت الفنية (الإنْستلايشن) الرقمية منها وما بعد الحداثية، فالأكيد أنه، لكي يبلور معاصرته بشكل باهر، يجد نفسه يحوّل العمل الفني إلى عالم بكامله، يستحث الفكر والتفكير؛ وتؤول معه اللوحة إلى منشأة فنية داخلية، غنية بمكوناتها الخاصة، تستجذب مشاركة العين والحس وتفجر السؤال في الأفق. وإسلام زاهر، ليس من الفنانين المتهافتين على المعاصرة وما بعد الحداثة، ولا تبهره تقانات الفن كما يمارسها العديد من معاصريه من الشباب ومن الأقل شبابا، بل إنه يأخذ وقته كاملا في حياته الإبداعية ويظل مُقِلّا في الإنتاج كما في المعارض. إنه أشبه بالشامان أو المتصوف في خلوته، بقدر ما يتعالى عن المرئي، بقدر ما ينصهر فيه، وكأنه بذلك يمسك بالحياة وباليومي، كما بأسئلته الوجودية بطريقة بلورية، أو على طريقة منحوتة الماس المضلَّعة. إن هذه المنظورية perspectivism ذات الطابع النيتشوى لا يمكن أن تتَأتّي للفنان إلا باعتباره يقيم في فكر اللوحة؛ هذا الفكر المتسائل والمشاغب الذي ينعكس بشكل كبير في بصماته التقنية التشكيلية وفي تشذير المرئي والجسد والوجه، وفي جدلية الخفاء والتجلي، والحركة والسكون والصمت والصخب.
من أعمال التشكيلي المصري إسلام زاهر (إدارة غاليري مصر )
تشكيل المفارقات بالحواس
يزجُّ بنا إسلام زاهر في هذا المعرض في “سرديات” يشكلها بتوتر اللطخات ووهْج الألوان وتداخل الخطوُط. وبقدر ما تبدو لطخات الفرشات حادة وقاسية وحركية، بقدر ما يتشكل “الموضوع” (وجها أو جسدا) بطريقة متراكبة، تستظهر الملامح بالمقدار نفسه الذي تواريها. هكذا تبحث عيننا عن المعنى من غير أن تمسك به تماما لأنه، وهو يتشكل، يحول تفاصيل “الحكاية” إلى نبرات إنشادية تشدُّ العين وتدخلها في حالة وجْد trance. إنها حالة من العدوى تسري من اللوحة إلى العين بشكل مباشر، كأنها دفق غير متحدد من الشذرات السائلة، يسري بخرير هادر. يبني إسلام عالمه من خلال تفكيك المرئي، وتشذيره ثم إعادة بنائه. إنه لا يشوهه على طريقة بيكون أو التعبيرية، بل يتقصى مفارقاته ويبلور له كثافة تجعله على حد الانمحاء، أي عبارة عن كتلة تكاد تكون هلامية، من غير أن تبدو كذلك. وهو إذ يدفع بتعبيريته الجديدة إلى حدودها القصوى، ويمتح من سيزان ومن الوحشية مساحاتها اللونية وتقطيعها للفضاء، نراه يبتكر لنفسه إيقاعا تشكيليا جديدا خاصا يتميز بالتوتر والحدة والصرامة حدّ الهوس.
ثمة في كائنات الفنان ووجوهها ووِضعاتها (body posture) ما يشبه الحكاية، غير المكتملة أو الملتبسة. صحيح أن الفنان يستهدف المفارقات الحياتية والوجودية، بين وهم السعادة والتأمل في الحياة، وفي لقطات مأساوية تتأرجح بين الوحدة وبين التعدد، وبين الانصهار في الذات والخروج من شرنقتها. بيد أن هذه المفارقات نفسها تتحلّل وتتشابك وتسكن بعضها بعضا، مستعصية على التمييز والفصل. هكذا، يبني الفنان الحكاية ليتخلى عنها ويتركها معلّقةً ومفتوحة على التأويل. إنها أشبه بحكاية مُتأتئة أو مُتعْتِعة، تكاد تتمنَّع عنها الكلمات والمعاني، وتبقى حبيسة التصور والخيال، تسرح في شسوعه وتمرح. أو لِأقْل إنها حكاية تُنسج بأيادي كثيرة مختلفة، فتتراكب وتتداخل في عناصرها وصورها، حتى لتكاد كثافتها تغدو ترسُّبات بحاجة إلى عيوننا الأركيوجية لاستغوار أعماقها. وما يجسّد ذلك هو اعتماد الفنان على كثافة الخامة وسمكها وانسيابها وتضاريسها، وتقطُّعاتها وحركيتها القاصمة، بحيث تغدو هذه الخشونة “الفظة” مدخلا لكثافة المعنى وتواشج المفارقات، لونا ومساحةً… وبذلك يبتكر الفنان توقيعه الخاص وبصمته الفريدة.
لوحة للفنان إسلام زاهر ( إدارة غاليري مصر)
كائنات ووجوه
يتلاعب الفنان بكائناته ووجوهه سواء كانت نابعة من اليومي أو من خيال الأسطورة. تغيب ملامحها أو تكاد، وأطرافها تغدو لامتحدّدة وامتدادا هلاميا لجسدها الغريب. إنها فقط انبثاقات غامضة لكتلتها المتشرنقة المتماوجة بإيقاع اللطخات الحادة. هكذا تغدو الغرابة سمة الكائن، وبصمة للوجه الغائر في هُجْنة ملامحه. لا هويّة هنا للمرئي، فالجسد كيان يشبه خشونة الأرض، والوجه يكفّ عن أن يكون مجالا لتحدّد الهوية، ليتحول إلى جغرافيا تنطبع فيها تضاريس الأرض بكامل تحولاتها. وهكذا يُضْحي الجسد كما الوجه أشبه بتجاعيد غريبة لكينونة محمولة على أُجاج بواطنهما.
رؤى من خلف الأفق
يختار إسلام زاهر أن يطلّ على الهُنا والآن كما على بواطن الذات وسراديب الفكر من خلال استعادته للآثار والذاكرة البصرية. ألم يقل هايدجر بأن الهُنا والآن انفتاح لامتناه على تاريخ وذاكرة يكون في الحاضر جُماع ما يناظره، خارج جدلية التوالي الزمني المعروف؟؛ فزمن الحاضر هذا بوابة مشرعة تمتص من الذاكرة ما يقرّبها منها من غير أي مسافة زمنية. الماضي التليد أقرب إلينا من حبل الوريد، ولا قطيعة تفصله عن آنيتنا الحاضرة. إنه، وهو يلقي بنظره بِحُريَّة، هنا وهناك في التاريخ كما في فضاءات الذاكرة الفنية والأسطورية والتاريخية، يستعيد تلك الآثار ليحييها من جديد، لا بهدف بعثها بوصفها أصولا، وإنما بقصد تأويلها وتحويلها وتحويرها وتملُّكها في اللحظة الحاضرة. وفي هذا يتبدّى ما أسميه فكرالصورة أو الصورة المفكّرة؛ تلك التي لا تنغمس في الحاضر واليومي إلا بقدر ما تجعل منه ذريعة ومنفتحا، مُضمِّخةً المرئي بما لا يُحصى ولا يُقدّر من الإحالات اللولبية.
من فينوس لاوسيل بتداويرها، وجوديث، وهي تعيد الحرية لمدينتها بقطع رأس هولوفيرن، ووجه المومياء إلى سيزان وكليمت ومارينو ماريني والوجه الأسطوري لعملاق السينما جون كوفي، لا يكفّ فناننا عن الانغراس في الأساطيريات التي تشكل تاريخا آخر قريبا وبعيدا منا، يتناسل في متخيله ويستغوي انغراسه في كسموبوليتية تاريخية وفضائية. إنه ينسج أسلوبه الشخصي في الحوار والانفتاح والمساءلة البصرية، ويبني رؤاه من خلال الانفتاح على الآثار المنطبعة فيه وفي ميوله الذاتية، بحيث إن الحكايات الشذرية التي يبثها في عالمه تكون في الآن نفسه ذاتية وغيرية، من هنا ومن هناك، من فتنة العين ومن سؤال الفكر. هذه الحوارية تمنح لأعمال إسلام زاهر نكهة كونية وتدرجه عنوةً في سيولة الفن العالمي، لا بمقصده فحسب وإنما بالإضافة التي يسعى إلى بلورتها، بشكل شخصي حثيث، وبحرية جارفة، وبرؤية إبداعية تمتح قوتها من فرادتها الآسرة.
يختار إسلام زاهر أن يطلّ على الهُنا (إدارة غاليري مصر)