بقلم : نرمين عليم باحثة تراثية
في ظل تحديات الأمم نتيجة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، التي تستهدف القيم والتراث الثقافي تزايدت أهمية الحفاظ على الموروث الثقافي للمجتمع، الذي يحمل في طياته سمات أساسية تشكل هوية وقومية المجتمع، إنه الإرث المتناقل عبر الأجيال الذي يحقق التناغم بين البعد الوطني للجماعة وبين التغيرات المستجدة عليها اجتماعيا واقتصاديا … واليوم “أذواق” تفتح ملف حرفة النحاس ومبدعيه وتقدم رؤية مستقبلية له.
ويُعد التراث مكونا ثقافيا يتضمن العادات والتقاليد، والممارسات والمعارف، والحرف التي تنتقل من جيل إلى جيل، وتمثل هذه العناصر جزءًا مهمًا من التراث الثقافي، وتحمل قيمًا تاريخية وثقافية غنية، وتمثل الحرف التراثية أحد العناصر المكونة لتاريخ وهوية أي مجتمع، كونها تعكس حياة الأفراد التي يعيشون وفقاً لها، إلى جانب ذلك، يعتبر دعم وتعزيز الحرف التراثية من أهم الطرق للحفاظ على الهوية الثقافية، فعندما يقتني الأفراد منتجات الحرف الشعبية، ، يشعرون بالانتماء إلى موروثهم الثقافي والفخر بتراثهم.
وحظيت حرفة تطويع النحاس بأهمية كبيرة في التراث الشعبي، وهي حرفة قديمة كانت تنتج الأواني المنزلية والصواني النحاس، والأطباق والأكواب، وهي مهنة تتطلب الكثير من الدقة والمهارة، وتعتبر من الحرف اليدوية التي انتشرت في العديد من الثقافات حول العالم، ويتم فيها تحويل النحاس الخام إلى منتجات متنوعة.
%20(2).jpg)
من روائع الفنان الراحل هلال السمان ( صفحة الفنان الفيسبوك)
وتبدأ العملية بتذويب النحاس وتسخينه إلى درجة حرارة عالية جداً حتى يصبح قابلاً للتشكيل، بعد ذلك، يتم صب النحاس المذاب في قوالب خاصة من الجبس الناعم لإعطائه الشكل الأولي، وبمجرد أن يبرد ويتصلب، يتم استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات لإعطاء القطعة النهائية شكلها وتفاصيلها النهائية، ثم يتم بعد ذلك تنظيف القطعة وصقلها لإعطائها لمعاناً جميلاً، وفي بعض الحالات، قد يتم استخدام التقنيات الكيميائية لإعطاء النحاس تأثيرات ملونة معينة، وهذا النوع من العمل يتطلب خبرة كبيرة ودقة في التفاصيل.
قد يهمك أيضا : الزجاج المنفوج البلدي (azwaaq.com)
وتنشط خلال شهر رمضان بشكل كبير صناعة الأواني والصواني النحاسية، ويعود السبب في ذلك إلى أن الكثير من التقاليد المرتبطة برمضان تتطلب استخدام هذه الأدوات، خلال الإفطار والسحور، لما لها من قدرة على الاحتفاظ بسخونة الطعام لوقت طويل بعض الشئ وذلك نتيجة بعض الخصائص الفيزيائية المميزة للنحاس، والتي تشمل الخصائص التالية:-
- النحاس موصل حراري جيد، ويتمتع بقدرة عالية على نقل الحرارة، مما يعني أنه يمكنه سريعًا امتصاص الحرارة وتوزيعها بالتساوي عبر السطح.
- يحتفظ النحاس بالحرارة، فبمجرد أن يصبح النحاس ساخنًا، يستغرق وقتًا أطول ليبرد مقارنة بالمواد الأخرى، وهذا يجعله مثاليًا للأواني والمقالي التي تحتاج إلى الحفاظ على الطعام ساخنًا.
- النحاس مادة ذات كثافة عالية، وهذا يسهم في قدرته على تخزين الحرارة وإطلاقها ببطء.
هذه الخصائص تجعل النحاس خيارًا مثاليًا في أواني الطهي التي تحتاج إلى الحفاظ على الطعام ساخنًا لفترات طويل، وكذلك الأطباق وصواني تقديم الطعام؛ لذلك فإن الأواني والصواني النحاسية ليست فقط عملية، ولكنها تعتبر أيضاً قطعاً فنية، بالإضافة إلى إمكانية استخدامها في الطهي والتقديم.
وخلال عصر الدولة الفاطمية، كانت هناك العديد من العادات والتقاليد المرتبطة بشهر رمضان، من بينها الاهتمام بإفطار الفقراء والمحتاجين، حيث اشتُهرت الدولة الفاطمية بالعناية الاجتماعية والرعاية التي كانت تقدما للفقراء والمحتاجين، وكان من إحدى أبرز هذه العادات هو تقديم “المائدة الرمضانية”، حيث كانت تُعد طاولات طويلة في الشوارع والأماكن العامة مليئة بالطعام والمشروبات، لتناول وجبة الفطور والسحور وكانت هذه الموائد مفتوحة للجميع، وخاصة الفقراء والمساكين،.
وهذه العادات لم تكن مقتصرة فقط على الدولة الفاطمية، ولكنها كانت شائعة في العديد من الثقافات الإسلامية، حيث يُعتبر شهر رمضان وقتًا للكرم والعطاء ومشاركة البركات مع الآخرين؛ مما جعل هناك زيادة بشكل كبير على طلب إنتاج الأواني والصواني النحاسية، وأيضًا الأطباق والأكواب في الشهر الفضيل.
ويعد شهر رمضان وقتاً مهماً لأولئك الذين يعملون في حرفة إنتاج أواني الطعام النحاسية، نظرًا لأن النحاس -كما ذكرنا سابقًا- من المعادن التي تنقل الحرارة بشكل جيد، لذا؛ لم يستغن عنه أصحاب المصانع الصغيرة الخاصة في إنتاج الحلويات والأجبان؛ حيث يزداد الطلب على منتجاتهم في هذا الشهر الكريم ويتم تقدير جهودهم بشكل أكبر.
%20(3).jpg)
كيف يمكن الاستفادة اقتصاديا من الفنون التراثية (من أعمال الفنان الراحل هلال السمان شيخ حرفي النحاس )
بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الأشخاص يستغلون هذا الشهر المبارك لتجديد أدوات المطبخ والبيت، نظرًا لازدياد الإقبال على الموائد العائلية ودعوات الفطار الأسرية؛ مما يزيد الطلب على هذه الأواني، علاوًة على أن الأواني والصواني النحاسية هدية شائعة خلال هذا الشهر، سواء كانت للأصدقاء أو العائلة أو الجيران؛ كونها أيضًا تضفي لمسة تراثية وجمالية على الطاولة، وكذلك للزينة.
وارتبطت حرفة النحاس بحرفة التبييض، وكانت تدر ربحًا كبيرًا على صاحبها، الذي كان له يوم محدد يمر فيه على القرية، ويتجمع الأهالي محضرين معهم أوانيهم النحاسية، ويقوم مبيّض النحاس باستعمال أدواته، وهي عبارة عن كمية من الرماد الأحمر، وماء النار، ليضعهما داخل الأواني النحاسية، ويضع طبقة كبيرة من الخيش عليهما، ويقوم بالوقوف داخلها، ويحركه بقدميه بحركة دائرية منتظمة مرددًا بعض الأغاني والمواويل، إلى أن يلمع النحاس وتزول من فوقه الطبقة الخضراء، ومع مرور الزمن توارت هذه المهنة، نظرًا لانتشار الأواني المصنعة من الألومنيوم.
كما ارتبطت حرفة النحاس أيضًا، بحرفة النقش على النحاس، والذي يعد من أبرز الفنون الشرقية والإسلامية، ويعود تاريخ النقش على النحاس إلى عصر الحضارة الإسلامية، والتي شهدت ازدهارًا في كافة مجالات الفنون المعدنية، حيث اشتهر الإقبال على تزيين المباني والمساجد، والمدارس ودور العلم، وسواها من المنشآت بشتى ضروب الزينة والزخرف، وتهافت أفراد المجتمع علي اقتناء الأشياء المحلاه بالرسوم والنقوش؛ مما أدى إلي سطوع حرف عديدة، ارتبطت بشكل خاص بالزخارف الإسلامية الهندسية والزخارف النباتية، ولجأ صناع هذه الحرفة إلي أساليب مبتكرة ووسائل شتى، مثل النقش والرسم، والتذهيب والطلاء، والتطعيم والتعشيق وجميع الفنون الزخرفية، على الأواني والصواني، ودلال القهوة والمباخر، والأبواب الخارجية والكؤوس، واللوحات التزيينية.
قد يهمك أيضا : الحنة .. تراث وجمال ودلال (azwaaq.com)
وتنقسم حرفة النقش على النحاس إلى ثلاث طرق:-
الطريقة الأولى:
الحفر أو النقش الذي يتم بالأقلام الحديدية؛ حيث يتم حفر الشكل الخارجي للعنصر الزخرفي أو الخطي والطرق حوله حتى يبرز القسم الداخلي للزخرفة.
الطريقة الثانية:
الحفر البارز وهو أقل دقة من النقش، ويتم بذات الأدوات التي تستخدم في عملية النقش على النحاس.
الطريقة الثالثة:
التكفيت وهي عملية تنزيل الفضة علي النحاس وتسمي التطعيم بالفضة، وهي حرفة لا يجيدها إلا قلائل، وتتطلب عملية تكفيت النحاس مهارة ودقة عالية من الحرفي، ودراية كاملة بأنواع الخطوط، وقدرة كبيرة على الرسم الدقيق الذي يتم بأدوات يدوية دون استخدام أيه تقنيات متطورة، من خلال مجموعة محدودة من الأدوات عبارة عن طاولة ذات عمودين من النحاس لتثبيت القطعة، ومطارق حديدية متعددة الأحجام ومطارق خشبية، بالإضافة إلى مجموعة من الأزاميل والأقلام الحديدية.
وتبدأ عملية التكفيت باختيار القطعة المطلوب نقشها؛ حيث ترسم النقوش بأقلام نقش فولاذية خاصة بهذه المهنة وبمساعدة المطرقة والسندان، ثم تُمسح القطعة جيداً حتى تعود إلي أصلها الطبيعي، ويتم عزل القطعة المراد تكفيتها بمادة شمعية لا تتأثر بالأحماض، ثم يقوم الحرفي بواسطة قلم حاد بالرسم علي هذه المادة بشكل يسمح بوصول الحمض إلي جسم المعدن فوق الخدش أو الرسم، ثم يقوم بتغطيس القطعة في حمض الآزوت الممدد وتركه لفترة حتى يأخذ الشق حجمه المطلوب، وبعد إخراج القطعة من الحمض، يتم غسلها وتجفيفها، ثم يتم تركيب خيوط الفضة في هذه الشقوق من خلال الطرق الخفيف علي الفضة؛ بحيث يأخذ الخيط مكانه الصحيح.
وحرفة التكفيت من الحرف المتوارثة، وتعد عائلة آل حسين من أشهر وأقدم العائلات المصرية التي عملت في هذه الحرفة؛ حيث بدأت العائلة في هذا الفن منذ أكثر من 200 عام، ولهم ورش بدار السلام وعدة بازارات في شارع المعز وخان الخليلي، ويعمل حوالي 20 فردًا من أفراد العائلة في هذه المهنة التي توارثوها من الأجداد والآباء، وقد أسند إليهم تنفيذ باب ضريح مقبرة الآغاخان سنة1963، كما شارك الجد الأكبر في تكفيت المساجد الأثرية الكبرى بشارع المعز وخان الخليلي.
ويُعد النقش على النحاس أحد الفنون التي لا زالت تحتفظ ببريقها الخاص حيًا حتى الآن رغم طغيان أدوات الاستخدام اليومية المعدنية، وبرغم أن هذه المهنة قد تكون شاقة وتتطلب الكثير من العمل اليدوي، إلا أن النتائج النهائية تستحق الجهد بالتأكيد، وهذا ما يجعلها واحدة من المهن التقليدية الأكثر احتراماً وتقديراً.
وتواجه حرفة تكفيت النحاس مجموعة من التحديات التي تعوق استمرارية هذه الحرفة، وتحول دون إمكانية نقلها للأجيال القادمة تتلخص في بعض النقاط التالية:-
- التكاليف العالية؛ حيث يتوافر معدنا الفضة والنحاس ذات الجودة العالية بأسعار مرتفعة ، وهذا قد يزيد من تكلفة الإنتاج؛ وبالتالي ارتفاع سعر المنتج النهائي.
- صعوبة التقنية المستخدمة؛ حيث يتطلب تكفييت النحاس بالفضة مهارات تقنية خاصة ودراية كاملة بأساليب استخدم الأدوات؛ مما يمكن أن يكون من الصعوبة الحصول على التدريب اللازم لاكتساب هذه المهارة، أو صعوبة العثور على الأشخاص ذو المهارات المناسبة.
- الصيانة؛ حيث من المعروف أن معدني النحاس والفضة يتآكلان بمرور الوقت، وبالتالي يتطلبان صيانة مستمرة للحفاظ على مظهرهما.
- التنظيم والقوانين، إذ قد تكون العمليات التنظيمية والقوانين المتعلقة بالصناعة والبيئة تحديات إضافية.
- محدودية الطلب؛ حيث قد يكون الطلب على النحاس المكفت بالفضة محدودًا، مما يجعل من الصعب تحقيق الربح، وهو ما يدفع الحرفي في بعض الأحيان إلى ترك الحرفة والعمل في مجال آخر؛ مما قد يؤدى إلى إندثار الحرفة؛ نتيجة قلة ممارسيها.
ويمكن أن تشهد حرفة تكفيت النحاس بأسلاك الفضة آفاقًا مستقبلية واعدة، إذا تمت عملية التطور والتنمية في هذا المجال من خلال النقاط التالية:-
- تطوير التقنيات؛ حيث يمكن التطوير في استخدام التقنيات الحالية المستخدمة في عملية التكفيت؛ بما يحسن من جودة المنتج النهائي ويزيد من كفاءة العملية.
- تدريب الشباب بهدف تعلم المهارات والتقنيات الخاصة بالحرفة؛ مما يزيد عدد العاملين في هذه الحرفة.
- التدريب والتطوير للحرفي، إن توفير برامج تدريبية للحرفيين قد يؤدي إلى تحسين الجودة والكفاءة.
- الشراكات الاستراتيجية، قد تساعد الشراكة مع الشركات الكبرى أو المؤسسات التعليمية في توفر الدعم اللازم للبحث والتطوير والتسويق في مجال الحرفة.
- الاستدامة، يعد التركيز على الأساليب الصديقة للبيئة في عملية التكفيت إحدى عناصر جذب المزيد من العملاء؛ كونه منتج طبيعي يدخل في إنتاجه خامات بيئية، بالإضافة إلى تعزيز القيمة الاجتماعية للحرفة.
- التسويق الرقمي؛ حيث يسهم استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تسويق هذه المنتجات، كما قد يزيد من الوعي والطلب على الحرفة.
إن تنفيذ هذه النقاط بنجاح، قد تدعم آفاق مستقبلية واعدة للحرفة، كما قد تعزز القيمة الاقتصادية لهذه الحرفة وتزيد من فرص النمو في الأسواق.
من هنا يمكن القول بأن الفنون التراثية هي الروح التي تنعكس منها الهوية الحقيقية للمجتمع، وتعد جزء أساسي من التراث الشعبي، وتلعب دوراً مهماً في تعزيز الهوية الثقافية وتماسك المجتمعات، وترسخ الروابط الاجتماعية والتفاهم بين الأفراد.
وهي علم ثقافي قائم بذاته يختص بقطاع الثقافة التقليدية أوالشعبية، ويلقي الضوء علي المجتمع من زوايا تاريخية واجتماعية ونفسية، وترتبط الحرف التراثية بعادات أفراد المجتمع وتقاليدهم، وما يعبرون عنه من آراء وأفكار ومشاعر يتناقلونها جيلاً عن جيل.
لذلك، يجب علينا الحفاظ على هذه المعرفة ونقلها إلى الأجيال القادمة، لضمان استمرارية هذا الإرث الثقافي القيم، الذي تعد المحافظة عليه أمرًا ضرورياً للمحافظة على الهوية الثقافية والاجتماعية للشعب، ويجب على أفراد المجتمع الاهتمام بالحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال القادمة لضمان استمرارية التراث الثقافي وترسيخ الهوية القومية لمجتمعنا المصري الأصيل.

كاتبة المقال الباحثة التراثية نرمين عليم (أذواق)