إن حب الناس والصائمين للكنافة والقطائف حب توارثه الآبــاء عن الأجداد ، وقد احتلت هذه الحلوى مكانا ملحوظا وبارزا في ديوان الشعر العربي؛ حيث كانت من أنواع الحلوى التي قلما تخلو منها موائد الصائمين في شهر رمضان أيام حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك لمصر، ولم يقف حديث الأدباء وقصائد الشعراء عن الكنافة عند حد وصف موائدها، بل تعدى ذلك إلى الحب والولع .. حب الكنافة والغرام بها والتغزل فيها حتى صار لها من المغرمين من خلد ذكرها ، وخلدته هي !. ودخلت الكنافة والقطايف تاريخ العرب حين خرج الحب من القلوب ، وصار رمضان سبحة معطلة وفانوسًا أثريا مَشِيدٍ!.
قد يهمك أيضا : أصول أطعمة رمضان في مصر المحروسة (1) (azwaaq.com)
فكما يعرف حب قيس لليلاه ، وغرام جميل ببثينة، وغناء ابن زيدون بولادة ، وتدله الأحنف في عشق فوز فقد عشق أبو الحسين يحيى الجزار الكنافة حبًا ملك عليه بطنه ، وجوانحه، فتغزل فيها وهام بصوانيها، وكان الشاعر الجزار لا ينتظر قدوم الشهر الفضيل ليصوم ، ويتهجد ، ولكن ليملاء الدنيا غزلا بكنافته ، فهى فتاة أحلامه والمعشوقة التي ترميه بالغدر ، وهو المعذب الذي يتعجب كيف ترميه ، وتتهمه بالهجران ، وهو الحافظ للود الأمين على العهد، فكان يستهديها ممن عرف من الكبار بأسلوب فيه ظرف وسخرية، وتقرير لواقع بؤسه وحرمانه الذي يحرك به التأثر والتعاطف، ليعبر الجزار بذلك عن طبقة الفقراء الذين يقتصرون على ضرورات الغذاء الساذج، ولا تسعف مواردهم بالتوسع في طيبات الطعام، كما يعبر عن معارضته السياسية لدولة المماليك البحرية الذين لم يرحبوا بأصحاب الأدب والشعراء لعدم فهمهم العربية بخلاف الدولة الأيوبية التي كانت تقدر الأدب وأصحابه فراح يبكي لياليها الغر الحسان ويقول في الكنافة:
سَقى اللَه أكنافَ الكُنافة بالقطرِ وجادَ عليها سُكَّرٌ دائمُ الدَّرِّ
وتَبا لأوقات المُخَلَّلِ إنها تَمُرُّ بلا نَفعٍ وتُحسَبُ من عُمري
أهيمُ غراماً كلما ذُكِرَ الحِمَى وليس الحِمَى إلا القُطَارة بالسِّعر
وأشتاقُ إِن هَبَّت نسيمُ قطائفِ ال سِّحورِ سُحَيراً وهيَ عاطرة النَّثرِ
ولي زوجة إن تَشتَهي قاهريَّةً أقول لها ما القاهريَّةُ في مِصرِ
ولكثرة إقبال أهل القاهرة على أكل القطائف، فقد نسبت إليهم ، فسميت بالحلوى القاهرية التي اشتاقت إليها زوجة ابن الجزار. الذي وصف معشوقته الكنافة فقال في غمرة ما قال :
ما رأت عيني الكنافة إلا عند بياعها على الدكان
ولعمري ما عاينت مقلتي قطرًا سوى دمعها من الحرمان
ولعل اهتمام الخاصة والعامة بالأطعمة والحلويات كالكنافة والقطائف أدى إلى تطور فن طبخها، ويؤكد ذلك ظهور فنانين مهرة في طبخ الحلوى والكنافة فقد عزى “ابن سعيد” جودة طبخ الأطعمة وحلويات القطائف والكنافة؛ إلى وجود جوار طباخات، أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين، “لهن في طبخها صناعة عجيبة، ورياسة متقدمة” وإن انتشار حوانيت الطباخين المهرة للكنافة والقطائف والزلابية في الأسواق جعل كثيرا من الناس يتناولونها بكرة وعشيا.
ويبدو انعكاس مهارة طباخي الكنافة والقطائف في نظم الشعراء، فأشاد ظافر الحداد بخباز الكنافة فقال:
وحاذق محكم كنافته لا تشبع العين منه بالنظر
وقد أعجب المقدسي بحلاوة طعمها ورخص ثمنها ووصفها بأنها لطيفة وبها حلاوات رخيصة ، لكثرة إنتاج مصر للمواد الخام الأساسية لصناعتها، من سكر وعسل ، وقمح ، فذكر ناصر خسرو أن مصر كانت تنتج عسلا وسكرا كثيرًا ، الأمر الذي ساعد الخاصة والعامة على الإقبال عليها فكان وجودها بجوار القطائف والزلابية على أسمطة الخلفاء ضروريًا ، فكانت أسمطتهم (موائدهم) تسور بشرائح الحلوى ، فأنشأ العزيز بالله “دار الفطرة” التي كانت تصنع فيها أصناف الكنافة والقطائف والزلابية وسائر أنواع الحلويات، وتفرق في رمضان والأعياد والمواسم على “الأمراء وأرباب الرسومات، وعلى طبقات الناس حتى تعم الكبير والصغير والضعيف والقوي”.
قد يهمك أيضا : كعب أخيل..نقطة ضعفنا (azwaaq.com)
واشتهر عدد من مساجد جبل المقطم والقرافة كمسجد شقيق الملك خسروان صاحب بيت المال، أحد خدّام القصر في أيام الخليفة الحافظ لدين الله في سنة 541هـ، بتقديم القطائف والكنافة المحشوّة باللوز والسكر والكافور والمسك، وفيها ما فيه بدل اللوز الفستق”، في رمضان وليالي الوقود التي يزداد فيها إضاءة ووقود القناديل في المساجد وبيوت الصوفية والبيمارستانات في مستهل رجب وليلة السابع والعشرين منه، وأول شعبان ومنتصفه وثبوت هلال رمضان وليلة السابع والعشرين منه ( ليلة القدر) وليلة المولد النبوي. و”يستدعى من لا يقدر على ذلك من أهل الجبل والقرافة وذوي البيوت المنقطعين ويأمر إذا حضروا بسكب الحلو والشيرج عليه بالجرار، ويأمرهم بالأكل منه، والحمل معهم، وكان أحبهم إليه من يأكل طعامه ويستدعي برّه وأنعامه”.
وفي أفراح الناس في مصر المملوكية كانت للكنافة والقطائف والحلوى إطلالة بهية فذكر ابن إياس في بدائعه ضمن حوادث 886هـ أن ابن الزيبق الحلواني استطاع أن يبيع منها أثناء احتفال أحد القضاة بختان ولده بمبلغ مائة وعشرين دينارًا مع الأخذ في الاعتبار أن الوقت الذي يتحدث عنه ابن إياس شهد تراجع قيمة العملة، ورغم ذلك استطاع الحلواني البيع بهذا المبلغ .
كما كانت وسيلة لاصطياد الخصوم السياسيين في مصر المملوكية كما حدث في رمضان سنة 816هـ حين استدعى السلطان “المؤيد شيخ” المعارضين له من الأمراء للفطرة عنده ، ومد لهم ما يحبونه من “سماط وقطائف وحلوى تليق بهم فأكلوا الحلاوة وتباسطوا معه”، فلما رُفع السماط قبض على الأمير دمرداش المحمدي، وعلى ابن أخيه الأمير قرقماش ، وقيدهما وبعثهما من ليلته إلى الإسكندرية فاعتقلا بها”.
ونظرًا لانحسار الاقتصاد المصري مع بدايات النصف الثاني من القرن 8 هـ وازدياد النفقات السلطانية أبطل الوزير منجك سنة 750هـ سماط شهر رمضان وتوقفت الحلوى والكنافة والقطائف والزلابية فاشتد إنكار الأمراء عليه بل وغير الأمراء، واتبع ذلك بإبطال سماط عيد الفطر، وسماط عيد النحر أيضًا في السنة ذاتها. واحتج بأنه يدفع نحو خمسين ألف درهم ولافائدة معتبرة وتوفير هذه الأسمطة من المصلحة.
وبعدما كانت الطبقات الشعبية تتفاخر بعمل أصناف عدة من الكنافة والقطائف تغيرت الأمور فها هو رمضان سنة 805هـ يهل عليهم و”قد غلت الأسعار وزادوا على القيمة بمقدار الثلثين” وفي سنة 892هـ أهل والناس في نكد وكرب من قلة الأقوات.
ومن طريف ما رواه التاريخ أن المصريين تقدموا بشكوى منظومة إلى “المحتسب” عام 917هـ يتظلمون فيها من ارتفاع أثمان الحلوى والكنافة والقطايف وإن جاءت الشكوى ــ القصيدة ــ مهلهلة المبنى والمعنى حيث قالوا:
فكم ” ست حسن” مع “أصابع زينب” بها كل ما تهوى النفوس مضيع
وكم كعكة تحكي أساور فضة وكم عقد حلت بها البسط أجمع
وكم قد حلا في مصر من (قاهرية) كذاك (المشبك) وصله ليس يقطع
وقد صرت في وصف (القطائف) هائمًا تراني لأبواب (الكنافة) أقرع
فيا قاضيًا محتسبًا عسى ترخص لنا الحلوى تطيب ونرتع
وارتبط بالموروث الشعبي المتعلق بالكنافة والقطائف أشكال متعددة في التعبير الصادر عن الوجدان الجمعي للعامة، منها أحلام العوام التي تشكل مصدرًا كاشفًا عن ذهنيتهم وتجارِبهم اليومية ، فأحلامهم لا تكشف المستقبلَ بل تعكس صراعات اليقظة ولها دواعٍ نفسية ترجع إلى عوامل متداخلة، منها سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية ودينية، تنعكس في عقل الإنسان في النوم على شكل أحلام. الكنافة والقطائف في الباب والتأويل نفسه لدىٰ المفسرين أمثال ابن سيرين والنابلسي وابن شاهين وغيرهم ولكن الفرق في درجات التفسير، وجنس الفاعل تبعًا للرؤيا، فرؤيا الرجال مختلفة عن النساء منهم الحامل أو المتزوجة أو البنت البكر أو العزباء أو المخطوبة أو الأرملة في حالاتهم وأوضاعهم كافة.
وأغلب التفسير والدلالات التي أتت في تفسير هذا الأمر هي في باب الخير الوفير والفرج والبشارة بإزالة الغموم والهموم من صاحب الحلم، بل تتعدى إلى إقامة علاقات ودية وعاطفية مع النساء وإذا تم الإفراط في تناول الكنافة في الحلم وخاصة إذا كان في أكثر من نوع من الحلويات في المنام فإن هذا يدل على أن صاحب الرؤية له حظ وفير من النساء الجميلات وأن صاحب الرؤية لديه تفكير إيجابي وذكاء وكلام طيب يمتلكه في التأثير على النساء، وذلك فيه الخير للرائي.
قد يهمك أيضا : عقول تصنع المعجزات وأخرى تصنع المشكلات ! (azwaaq.com)
والظاهر أن الكنافة كان لها نصيب في أمثال العوام التي شكلت أبرز المظاهر الكاشفة عن ذهنيتهم، وهى جزء من الأدب الشعبي الذي يتردد في أفواه العامة ويتخذون منها مقدمات لنتائج تهتدى إليها وتؤمن بمنطقها ، فتتميز بإيجاز اللفظ وإصابة المعنى، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية، التي نلمسها في قولهم :”إن كان الكنافة يدْخلها توم، فالقبطي بيحب الروم” نهاية البلاغة وفصل الخطاب لبيان الموقف الوطني لأقباط مصر من “الصليبيين” أو “الروم” كما تسميهم سيرة فتوح البهنسا الغراء ، “التي حملت صدى الهجوم المفاجئ الذي شنه “بطرس الأول لوزنيان” ملك قبرص على الإسكندرية سنة 1365م، الأمر الذي أدى لاستنفار المشاعر ضد المسيحيين مع تردد أنباء أن أقباط الثغر ساروا أمام الغزاة يدلونهم على دور المسلمين بعد دخولهم من باب رشيد. ولكن المثل الشعبي جسد جوهر العلاقة بين المصريين المسلمين والمسيحيين على امتداد أربعة عشر قرنًا من الزمان بمذاقه الخاص :”كلها حسن ولطافه وطعمها زي الكنافه” العجيبة المدهشة التي سحرت العقول وابهرت العيون وسط ازدحام الناس ، من كل الأجناس والألوان ، مع مرور المحتسب يتبعه رجاله حاملين المكاييل والموازين لمراقبة انضباط الأسواق في الشهر الكريم ويقبض على المخالفين ويعاقبهم عقابًا شديدًا أقله الضرب بالفلقة فتسود الرهبة في الجو .. تغير الزمان وخمدت نيران المطبخ السلطاني ، وأغلقت حوانيت طباخي الكنافة والقطائف والهريسة أبوابها وولى هذا العالم الساحر بين طيات الزمان.