يمر زمان وراء زمان، نستعيد همسات الماضي الدافئة، نلملم ملامح الصور المتبقية من أصداء العصور المولية عن رمضان الذي ظل فى وجدان المصريين جميعا يحتل مكانته منذ قرون، لا فرق بين مسلم أو مسيحى، أو حتى يهودى يوم كان لليهود وجود فى مصر .. فرمضان موسم مصرى أصيل للبهجة والتواصل والطقوس المدهشة، والعجيبة التى لا تتكرر طوال العام ..لا فوانيس، ولا كنافة، ولا قطائف، ولا فوازير، إلا فى رمضان .. لا سهر مثل سهر رمضان، وليست هناك فرصة للتزاور والتواد بين الناس مثل فرصة رمضان الذي ينشر مظاهر البهجة على البسطاء ويلقي بظلاله الغنية على تراث مصر الخالد ، يفتح لنا أبوابه الرمضانية ويبوح بأسراره فتتجلى فيه مناجاة المحبين وابتهالات العابدين فتصفو القلوب وترتقي الأرواح ، تذوب في لحظات من النشوة تنصهر فيها كل معاني القرب إلى الله نستمع لتوسلات المريدين “يا نفيسة الدارين نظرة” ، و ” مدد يام المساكين يا طاهرة يام هاشم يام العواجيز” ، “مدد يا سيدي يا حسين” ، ” ونشهد الكرامات ونستمع لدقات الطبول ، وحلقات الذكر والرقص الطقسي ، ونتذوق التمرالهندي و العرقسوس والسوبيا بألوانها الزاهية المقاومة للعطش وشراب قمر الدين. مع رائحة الكنافة والقطايف التي ما إن يرد اسم رمضان أمام المصريين إلا وتمثلت في مخيلاتهم صواني الكنافة والقطايف ، والتي بلغ من شهرتها أن جلال الدين السيوطي الفقيه والمؤرخ المصري الذي عاش في العصر المملوكي جمع ما قيل فيهما نثرًا وشعرًا في كتاب لطيف أسماه “منهل اللطائف في الكنافة والقطائف”. جمع فيها ما قيل من أشعار في هذين النوعين من الطعام الحلو ، ومعلوم أن الكنافة والقطايف لا تعدان في البيوت والأسواق خاصة إلا في شهر رمضان ، ورسالة السيوطي ” طريفة في بابها ويتيمة في فنها الأدبي” بدأها بتفسير لغوي للقطايف ، وقال: القطائف المأكولة لا تعرفها العرب. وقال عن الكنافة إن أئمة اللغة لم يذكروها والذي يُظهر أنها لفظ أعجمي أو يوناني. وجمع السيوطي الكثير من الأشعار خاصة عن القطائف ومجموعها 26 نصًا شعريًا بين مقطوعة وقصيدة.
أما عن أصل الكنافة ، اتفق كل من ابن فضل الله العمري ( 1384 م) ، والسيوطي (1505م) على أن أول من اتخذ الكنافة من العرب هو معاوية بن أبي سفيان ،وكان يأكلها في السحور ، وذلك أنه شكا إلى طبيبه الجوع فوصفها له، وإن ذكر بعض المؤرخين أن “قمر الدين” ظهر في عهد عبد الملك بن مروان ، ثم ظهرت الكنافة والقطائف في عهد سليمان بن عبد الملك وصنعت له خصيصًا ؛ ليتسحر بها ، وكان ذلك في أول المئة الثانية للهجرة، وقد صنعها له طهاة مدينة حلب.
كما عُرفت في قائمة طعام المصريين اليهود في عيد الأسابيع ، ويسمونه “عيد العنصرة” أو شبعوت أو “عيد الخطاب” ويسمى بالعبرية عيد عشرتا ومعناه الاجتماع، ويكون بعد الفطير بسبعة أيام ويقولون إنه اليوم الذي خاطب الله فيه بني إسرائيل في طور سيناء بمصر وأمرهم بالأمر والنهي والوعد والوعيد”. ويأكلون فيه القطائف والكنافة ويتفننون في عملها ويجعلونها بديلا عن المن الذي أنزله الله عليهم في هذا اليوم.
ومهما يكن من أمر الروايات التاريخية فإن الكنافة قد لاقت رواجًا ملحوظًا في كل عموم مصر والشام ثم في بقية الأقطار العربية والإسلامية بدرجات متفاوتة، وفي العهد الأموي كان لوالي مصر في مقر حكمه بالفسطاط مائدة كل يوم من أيام رمضان بها ألف جفنة عامرة بألوان الطعام والهريسة والكنافة والقطائف والحلاوة تنصب حول داره، فضلا عن مائة جفنة أخرى محمولة على عجلات يطاف بها على القبائل فيشمل سماطه القاصي والداني.
وتطورت القطائف والكنافة مع دخول مصر في ظلال الدولة العباسية التي تأثرت بمؤثرات فارسية نراها على مائدة “المكتفي بالله” التي حوت في رمضان “قطائف” كانت في غاية اللطافة ورقة الخبز وإحكام الصنعة، فقال هل وصف الشعراء هذا فأجابه ابن الرومي:
قطائف قد حشيت باللوز والسكر الماذي حشو الموز
تسبح في آذى دهن الجوز سررت لما وقعت في حوزي
سرور عباس بقرب فوز
والماذي هو العسل الأبيض ، والآذي: الموج أما الشطر الأخير فهو إشارة إلى عباس بن الأحنف وفوز معشوقته.
وداوم أحمد ابن طولون على سنة إقامة الموائد الرمضانية الغنية بأصناف الطعام وأطايب الحلوى ” والكنافة والكثير من اللوزينج، والهرائس، والقطائف ” واشتهر بمصر بيعهم لذلك، وعرفوا به، فكان الناس يتناوبونهم لذلك، واشتهر طباخو قصره بإعداد أشهى ألوان الطعام والحلوى والكنافة والقطائف القاهرة المصرية ! حتى أنه كان يُبعث بالخدم إلى بيوت الفقراء ليحملوهم بالقوة إلى موائدهم وبعد تناولهم للإفطار والحلوى يعودوا إلى بيوتهم حاملين في أكمامهم ما استطاعوا من طعام وهريسة وكنافة وفاكهة لأولادهم . وفي عهد الفاطميين تفننوا في أسمطة حوت أطايب الطعام والحلوى التي كانت تعد في موضوعين : فاللحوم والدواجن وما إليها تعد في مطابخ القصر، أما أنواع الهريسة والبقلاوة والكنافة والقطايف وسائر أنواع الحلوى فكانت تعد في ” دار الفطرة” وكل ذلك تحت إشراف “متولي المائدة”!.
فيصفها المقريزي في خططه بقوله:” حتى إذا ما وصلنا إلى ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان، تخرج الأوامر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر، والحضور على الأسمطة على العادة، وجعلت أمام المذكورين، ليشملها بركة ختم القرآن، ثم كبر المؤذنون، وهللوا، وأخذوا في الصوفيات إلى أن نثر عليهم من الروشن دراهم ودنانير ورباعيات، وقدّمت جفان القطائف والكنافة على الرسم مع الحلوى، فجروا على عادتهم، وملأوا أكمامهم”.
وبلغ اهتمام أهل مصر بها حدًا أثار انتباه الرحالة الأوربيين الذين زاروا مصر في القرنين 18 ، 19 ، فأسهبوا في وصف طرق عملها ، وأطلقوا على الكنافة اسم ” المكرونة المصرية”. ووصف لنا الرحالة الإيطالي ” فريسكو بالدي” القرن 14 طريقة أهل القاهرة في عملها وتقديمها في أواني وكئوس مزخرفة بزخارف نباتية وهندسية مكتوب عليها عبارات تحوى الحكم والأقوال المأثورة ” بالهناء والشفاء” ، و ” البركة في اللمة” ، ” كلوه هنيئًا مريئًا”.
وحتى اليوم تنتشر صناعة الكنافة والقطائف في أرجاء مصر ريفًا وحضرًا ، وحتى في المناطق شبه الصحراوية مثل البحر الأحمر ، ولعل ذلك الانتشار الواسع هو الذي حدا بأحد المحتسبين الأتراك في عصر محمد علي أن يتخذ من الأنية النحاسية المستديرة التي تنضج الكنافة عليها، أداة لتعذيب الكنفانية الذين يرفعون أسعارها بدلا من الذهاب بهم إلى ساحة القاضي.
ويحوي الأدب العربي سجلا حافلا بالقصائد التي نظمها أصحابها في الكنافة والقطائف، وكلاهما يسوى من الدقيق المرق بالماء مع اختلاف في الشكل وطريقة الإعداد بعد ذلك ففي حين تكون الكنافة على شكل شعيرات طويلة تسقى “بالقطر” أي السكر المذاب بعد تمام نضجها ، نجد أن القطائف تكون على شكل الدائرة الصغيرة المخملية الملمس ولذا سماها العرب بالقطائف نسبة إلى قماش القطيفة ذات الخمل، وهى تقلى بالزيت بعد حشوها وتسقى ، قديما بدهن الجوز بالقطر أو السكر المذاب وماء الورد والفستق المدقوق ناعما، وترك محمد بن الحسن البغدادي (576هـ/637هـ) وصفا لأنواع وطرق صنعها في الباب العاشر من كتابه “الطبيخ” بعنوان “في عمل الخشكنانج والمطبق والقطائف.
ولعل حب الناس والصائمين للكنافة والقطائف حب توارثه الآبــاء عن الأجداد ، واحتلت مكانا ملحوظًا وبارزًا في ديوان الشعر العربي، فكيف كان ذلك ؟ التفاصيل في المقال القادم